تدعم فرنسا - عبر البلديات - إيجارات الشقق لأصحاب الدخل المحدود والعاطلين عن العمل (بعد دراسة كل طلب كلّ حالة). تُشارك الحكومة الأسترالية في دفع أجور الموظفين في الشركات التي تُشجّع اليد العاملة المحلية، تحديداً الشباب وكبار السنّ. تؤمّن كوبا التعليم المجاني لكلّ السكّان في كلّ مراحله، من الحضانة وحتى الجامعة. يُموّل القطاع العام في كندا تغطية شاملة لخدمات الرعاية الصحية الضرورية. أرست مصر نظاماً لدعم المواد الغذائية، بما يضمن توفير السلّة الغذائية الأساسية للسكّان بأسعار مُتدنّية. أقرّت تركيا الإعفاء الضريبي لوسائل النقل العام ولاستهلاك الغاز النفطي المُسال ليُصبح سعره أقلّ مقارنةً بالبنزين والديزل... يختلف شكل الدعم المُوجّه للسكّان بين دولة وأخرى، ولكن القاسم المُشترك بينها أنّ الدعم «سياسة حكومية»، يتمّ تمويل كلفته من الخزينة العامة. إجمالاً، يأتي الدعم لضمان حصول الناس على حاجاتهم الرئيسية وكجزء من استراتيجية الحماية الاجتماعية العامة، ولا يترك عُرضةً لأهواء «السوق» وخيارات القطاع الخاص ومؤسساته المالية، التي لا تُبالي إلّا بحسابات الربح والخسارة. ولكن في لبنان، تراجعت «الدولة» خطوةً إلى الخلف، مُتفرّجة على مصرف لبنان يُصدر تعاميم ما يسمّى الدعم، من دون معايير. صحيحٌ أنّ بعض الأسعار مدعومة في لبنان، كأدوية مرضى السرطان أو سعر الكهرباء (من دون تناسي أنّ القسم الأكبر يدفع فاتورة الاشتراك بالمولّد الكهربائي) ولكن «الدعم» بمفهومه العام غير موجود. يقول الوزير السابق ونائب حاكم مصرف لبنان سابقاً، ناصر السعيدي إنّه «ليس من صلاحيات مصرف لبنان أن يُقرّر إذا كان سيدعم أم لا». ويُضيف في اتصال مع «الأخبار» أنّ سياسة الدعم المُتبعة خاطئة، «لأنّ الدعم يجب أن يكون من صلب موازنات الدولة. حالياً، لا يوجد أي شفافية ومساءَلة، وُضعت مثلاً لائحة لتمويل استيراد السلع الأساسية، من دون دراسة. والنسبة الأكبر من الدعم لا تصل إلى الفقراء والمحتاجين، وقسمٌ كبير من السلع المدعومة يُهرّب إلى الخارج».ليس النقاش الدائر حالياً حول «رفع الدعم» أو «ترشيد الدعم»، إلّا تضليلياً، بدءاً من تحويل «الدعم» إلى مشكلة بحدّ ذاتها وحصر «أقصى» حاجات السكّان بتأمين ربطة الخبز وعلبة السردين، وصولاً إلى أنّ الدعم غير موجود في الأصل. فما يقوم به مصرف لبنان هو تغطية 85% من كلفة الاستيراد بالسعر الرسمي لصرف الليرة. وفي الـ«1515 ليرة» يكمن صلب الموضوع.
سنوات «إعمار» ما بعد الحرب، لم تتضمّن وضع استراتيجية حماية أو تحديد أشكال الدعم للسكّان من قبل الحكومات المُتعاقبة، بل تمّ اللجوء إلى تثبيت سعر الصرف على 1515 ليرة لكلّ دولار. «اعتُمدت هذه السياسة لتحقيق أرباحٍ غير شرعية على حساب الناس»، يقول وزير المالية السابق جورج قرم لـ«الأخبار». وفي معرض تبرير الإثم المُرتكب، يتمّ «تربيح جميلة» بأنّ تثبيت السعر سمح لجزء من السكّان بالسفر وشراء سيارات جديدة وارتياد مطاعم فخمة والتعلّم في مؤسسات خاصة، إلا أنّها عملياً كانت «خدمةً» قدّمها حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة لـ«فئة الـ1%» وكلّ من يرتبط بها من كبار مودعين وسياسيين وتجّار ومصرفيين.
يقول أحد أساتذة الاقتصاد في «كلية لندن للاقتصاد» إنّ تثبيت سعر الصرف «دمّر الاقتصاد الوطني وقدرته على تحريك سوق العمل وإنتاج الرساميل وخلق النموّ». السعر الحقيقي «كان ضعفَي الـ1515، وكان الاقتصاد يتكبّد خسارة دولارين مقابل كلّ دولار يخرج من البلد». مَن يملك المال «كان المُستفيد الأكبر، خاصة من ادّخر أمواله في حسابات خارجية، ولم يُعد توظيفها في الداخل». أُضيف إلى ذلك الفائدة المُرتفعة «لجذب الدولارات ومحاولة كبح التضخم، من دون الاهتمام بخلق فرص العمل أو دعم الاقتصاد الحقيقي، فضعُفت قيمة الأجور». أوصل هذا المسار إلى فرض دعم وهمي «على الاستهلاك للطبقتين الغنية والفقيرة، جاء لمصلحة الأغنياء. فقد اشترى الفقير الخبز والدواء والبنزين على أساس 1515 ليرة، ولكنّ هذا الدعم أدّى إلى تضخّم حصّة الغني وارتفاع استهلاكه من دون كلفة كبيرة، ما زاد من قدرته على الادّخار».
عام 2019، حلّ الانهيار وتبخّرت القدرة على تثبيت سعر الصرف، وصولاً إلى «تهديد» رياض سلامة في آب الماضي بأنّه سيتوقف نهاية عام 2020 عن «دعم» الاستيراد وفق سعر الصرف الرسمي. في حال توصّلت الحكومة إلى آلية لتبديل صيغة «الدعم» الحالية، ما المُبرّر لإبقاء السعر الرسمي للدولار عند 1515 ليرة؟ ولماذا لا يُعدّل بما يتناسب مع المُتغيرات في المؤشرات المالية؟ يعتبر أحد الخبراء الاقتصاديين أنّ «عدم تعديل سعر الصرف الرسمي فيه أذى للسكّان، الذين أصبح مُعظم استهلاكهم بناءً على سعر السوق السوداء، من دون أي تحسين في مستوى معيشتهم»، مُشيراً إلى أنّه «لا معنى لمناقشة مستقبل الدعم من دون دراسة سعر الصرف وكيفية تصحيح الأجور، انطلاقاً من تحديد السياسات الاجتماعية - الاقتصادية الواجب اعتمادها».
قرم: ثُبّت سعر الصرف لتحقيق أرباحٍ غير شرعية على حساب الناس


في الإطار نفسه، يرى قرم أنّ «الاختلال بدأ مع إبقاء سعر صرف 1515 ليرة مقابل أسعار مُتعدّدة لأنواع مختلفة من العمليات. هذه البدعة تزيد الفوضى والتلاعب في السوق، وتستفيد منها المصالح التجارية والمالية في البلد». ما لا يجده قرم منطقياً هو أن يكون لبنان «خلال الخمسينيات والستينيات في الطليعة باعتماد سعر صرف عائم واقتصاد متين، ثم يختار تثبيت سعر الصرف حين ذهبت الاقتصادات العالمية نحو تحرير السعر، ما أدّى إلى نهب لبنان وشلّ إمكاناته». لا يتحدّث قرم عن «توحيد أسعار الصرف». أما إذا أرادت الحكومة القيام بذلك، «فبإمكانها تحديد سعرين، واحد للاستيراد والآخر للتداول المحلّي». ولكن ما يقترحه وزير المالية السابق، هو «العودة إلى سعر الصرف العائم ضمن هوامش واسعة، ما يسمح للبنان بالتكيّف مع التطورات النقدية العالمية، وبالتقاط المؤشرات على أيّ خلل قد يُصيب السوق».
التصحيح الاقتصادي الذي يقترحه قرم وغيره من الاختصاصيين لا يبدو قابلاً للتطبيق بوجود مُنتفعين من الوضع. تقول مصادر في وزارة المالية إنّه يُبحث رفع استيفاء بعض الرسوم على أساس الـ3900 ليرة، ولكن لا تعديل في سعر الصرف رسمياً. فكما اتُّخذ خيار «التثبيت» في التسعينيات تنفيذاً لمصلحة «الكبار»، سيُستمر حالياً العمل به حمايةً لمصالح مصرف لبنان والمصارف التجارية. على الورق، سيبقى السعر الرسمي 1515 ليرة، «لأنّ تغييره يعني إعلان إفلاس جميع المصارف، لأن رساميلها مقوّمة بالليرة»، يقول أحد المصرفيين.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا