في أيار 2015، وفي جلسة واحدة، عقدت بلدية بيروت اتفاقات بالتراضي لشراء عقارات في مناطق الحمرا والأشرفية والمزرعة والشويفات والشياح بقيمة إجمالية بلغت يومها 214 مليون دولار. الاتفاقات حملت توقيع رئيس المجلس البلدي السابق بلال حمد، بموافقة محافظ بيروت السابق زياد شبيب ووزير الداخلية السابق نهاد المشنوق وديوان المحاسبة. خمس سنوات مرّت على هذه العقود التي أُبرمت بذريعة الحاجة الى تنفيذ مشاريع إنمائية «طارئة»، كتوسيع سوق الخضار والفاكهة وإنشاء مسلخ، قبل أن يتبين أن «الطارئ» لم يكن سوى تنفيع أصحاب العقارات، فيما لم يُنفّذ أي من المشاريع الموعودة.شكّل العقار الرقم 4517 الواقع في الشياح (خارج نطاق بيروت) «حبّة الكرز» التي توّجت هذه الصفقة المشبوهة بكل المعايير. اشترت البلدية العقار الذي تبلغ مساحته نحو 13500 متر مربع، والواقع خلف المدينة الرياضية، من «شركة الورود العقارية» بحجة توسيع سوق الخضار. وبلغ سعر المتر الواحد نحو ثلاثة آلاف دولار، وهو رقم مبالغ فيه وفق خبراء عقاريين. إلا أن الأنكى أن الـ 40 مليون دولار التي دُفعت ثمناً له كانت مقابل شراء «أرض محروقة» تتضمّن عشرات المخالفات وعشوائيات سكنية وتجارية من الباطون التي أقيمت فوقها. وقد تعهدت الشركة بإزالتها في مهلة أقصاها سنة واحدة من تاريخ تسجيله باسم البلدية. وبلغت قيمة التوقيفات العشرية (عُشر قيمة العقار كضمان لتنفيذ دفتر الشروط) التي وضعتها الشركة في عهدة البلدية 6 مليارات و5 ملايين ليرة (نحو 4 ملايين دولار يومها). ولكن، رغم أن المبلغ الموقوف لا يُردّ إلا بعد تنفيذ كل الشروط، وفق قانون المحاسبة العمومية، استبدل شبيب التوقيفات العشرية، أواخر العام 2017، بـ«كتاب ضمان» صادر عن بنك الشرق الأوسط وأفريقيا. بمعنى آخر، قبضت الشركة العُشر المتبقي من الثمن مقابل ورقة لا قيمة فعلية لها وتنتهي صلاحيتها خلال عام. وبالفعل، انتهت في كانون الأول 2018 مدة الكفالة التي لم تجدّد، ولم تتخذ البلدية أي إجراء قانوني بحق الشركة التي لم تنفّذ تعهدها بإزالة المباني المشيدة فوق العقار. وبذلك، استحال تسجيل العقار باسم البلدية، نظراً الى عدم إمكان معرفة قيمته التأجيرية في ظل وجود تعديات عليه، فيما لا حق للمجلس البلدي في مقاضاة الشركة، لأن كتاب الضمان المصرفي نصّ بوضوح على أنه «في نهاية المهلة، وفي حال لم يكن قد وردنا أي مطالبة منكم، يُعتبر (الكتاب) لاغياً ومن دون مفعول، وكأنه لم يكن حكماً».

انقر على الصورة لتكبيرها

هذا كله يمثّل جزءاً من الصفقة - الفضيحة أدت الى هدر 40 مليون دولار من أموال دافعي الضرائب في العاصمة. فالبلدية، بحسب المستندات والوثائق التي حصلت عليها «الأخبار»، لم تقم يوماً بالكشف على العقار ولا تملك خريطة طوبوغراف له ولا تعرف حدوده حتى! وقد استفاق المحافظ السابق على العقار في أيار الماضي، قبل شهر من انتهاء ولايته، وطلب من دائرة القضايا في البلدية الكشف على العقار ميدانياً للمرة الأولى، وتسطير إنذار أخير لـ«شركة الورود العقارية»، علماً بأن الأمر، بحسب مصادر بلدية، «بحاجة الى موافقة المجلس البلدي الذي لم يكن على علم بكل التطورات في الملف، لكونه حصل في عهد المجلس السابق برئاسة بلال حمد».
حتى الآن، لم يُتخذ أي إجراء ضد الشركة. ولكن متى ما عُرف السبب بطل العجب. فـ«شركة الورود العقارية ش.م.ل»، بحسب السجل التجاري، يرأس مجلس إدارتها موسى عباس شرف. وهو رجل أعمال محسوب على حركة أمل، والمساهم الأكبر في الشركة، الى جانب مساهمين آخرين تجمعهم سلسلة من «المصادفات». فبين المساهمين شركة «أي غروب ش.م.م» التي تعنى بتقديم خدمات الكمبيوتر والمعلوماتية، وشركة «اف ار ايتش هولدنغ ش.م.ل» التي يرأس مجلس إدارتها فهد رفيق الحريري، وشركة «ايراد للاستثمار ش.م.ل هولدينغ» التي يرأس مجلس إدارتها أيضاً فهد الحريري وتساهم فيها شقيقته هند رفيق الحريري. وهنا، في شركة «ايراد»، تكرّ «المصادفات» بشكل «غريب». فأحد مؤسسي الشركة هو رئيس الحكومة السابق فؤاد عبد الباسط السنيورة الغني عن التعريف. ومديرها العام هو وليد السبع أعين، المدير المالي لمؤسسات آل الحريري، وهو، «للمصادفة»، صهر بلال حمد، رئيس المجلس البلدي الذي عقد الصفقة. ومن باب «الصدفة»، أيضاً، فإن كل العقارات التي اشتراها «مجلس حمد»، في هذه الصفقة، تحمل توقيع دائرة القضايا، باستثناء هذا العقار الذي قفز فوق الدائرة ولم تعلم به سوى في أيار الماضي، عندما «استنجد» شبيب بها لإيجاد حلّ.
لم تحفظ البلدية حقها القانوني في مقاضاة الشركة البائعة


هل يمكن للبلدية اليوم محاسبة «الورود العقارية» لعدم إزالتها العشوائيات المشيّدة فوق العقار 4517؟ تشير مصادر إدارية في البلدية الى أن دائرة القضايا أبلغت الشركة، بناءً على طلب شبيب، إنذاراً أخيراً، وحصلت على تعهد بتنفيذ الإخلاءات. ولكن، لغاية اليوم، لم يحصل ذلك. وبعد تسلّم المحافظ مروان عبود منصبه في حزيران الماضي واطلاعه على الملف، أحاله على المجلس البلدي للموافقة على رفع دعوى ضد الشركة... ولكن من دون أمل كبير، أولاً بسبب «استلشاق» المجلس السابق بالمال العام، وثانياً - وهو الأهم - بسبب الأسماء «الكبيرة» و«اللامعة» التي يقترن الملف - الفضيحة بها.



«مجلس حمد» سيّل عقارات الحريري
وتجدر الاشارة هنا إلى أن عقار الشويفات (خارج النطاق البلدي أيضاً) الذي دفعت البلدية 47 مليون دولار ثمناً له، تعود ملكيته الى آل الحريري أيضاً، علماً بأن «مجلس حمد» كان يعمل، إبان ولايته، على تسييل عقارات عائلة الحريري (حاولت البلدية شراء 3 عقارات من فهد الحريري على الشاطئ الشعبي في الرملة البيضاء) على حساب خزينة البلدية، حتى ولو كانت هذه الأراضي خارج النطاق البلدي وتنتفي معها المنفعة العامة وتعد مخالفة للقوانين والأنظمة. هذا ما عبّر عنه تقرير النيابة العامة لدى ديوان المحاسبة يومها، إذ لفت الى أن المجلس البلدي كلّف لجنة التخطيط والأشغال التفاوض مع مالكي العقارات، الا أن ذلك لم يحصل؛ إذ استُبدلت اللجنة بخبراء محلفين لتخمين العقارات. ووجدت النيابة العامة أيضاً أن «أشخاصاً من غير أعضاء اللجنة المكلّفة قد تولّوا إجراء المفاوضات أو المشاركة فيها مع مالكي بعض العقارات الذين تبيّن أن أحدهم، وهو وليد محيي الدين السبع أعين، المفوّض بالتوقيع عن مالكي العقارات الستة في المزرعة، تربطه علاقات عائلية ومصالح مع رئيس المجلس البلدي في بيروت ورئيس اللجنة المكلّفة بلال حمد، وذلك خلافاً لأحكام المادة 43 من قانون البلديات التي تنصّ على أنه: لا يجوز أن يشترك في المناقشة والاقتراع (في جلسات المجلس البلدي) عضو له مصلحة خاصة».


من يشغل العقار؟
«ليكتمل النقل بالزعرور»، تسلّم رئيس المجلس البلدي جمال عيتاني، قبل 10 أيام، كتاباً من رئيس بلدية الغبيري معن خليل، يطالب فيه من بلدية بيروت بتسديد الرسوم الواجبة عليها من إشغال العقار رقم 4517/ الشياح، أي العقار، والبالغة قيمتها 144 مليوناً و699 ألف ليرة!
مصادر في بلدية الغبيري التي يقع العقار 4517/ الشياح ضمن نطاقها، أفادت بأن هناك «عدم وضوح في هوية شاغل العقار، إذ إن معلوماتنا تشير الى أن المتعهد جهاد العرب يستخدمه ويخزن فيه مواد اسمنتية وغيرها. الا أن العرب لدى مطالبة بلدية الغبيري له بالرسوم الواجبة عن عام 2016، أحالها الى بلدية بيروت. بناءً عليه، أرسل رئيس بلدية الغبيري كتاباً الى بلدية بيروت يطالبها فيه بالرسوم البلدية الواجبة عليها، لكون البلدية نفسها لم تصرّح عن الشاغل». المصادر أشارت الى أن سوق الخضار المركزي المحاذي للعقار، يتعدّى أيضاً على جزء من العقار الرقم 4517، وبالتالي يفترض أن يسدد رسوماً بلدية الى مالك العقار، أي مجلس بلدية بيروت، علماً بأن هذا السوق عبارة عن مؤسسات تجارية تبغي الربح».