دخل التدقيق الجنائي في نفق الانتظار. لا أُعلن عن موته ولا عن استمراره. مدير شركة «ألفاريز أند مارسال» دانيال جيمس أبلغ وزير المالية غازي وزني، عندما التقاه أمس، أن المعلومات التي حصلت عليها الشركة، رداً على الأسئلة التي طلبتها في المرة الأولى، لم تكن كافية. في حين أنها لم تتلقّ أي جواب عن طلبها الثاني (انتهت المهلة أول من أمس)، ما أدى إلى الوصول إلى طريق مسدود، يستدعي بالتالي الانسحاب. أمام هذا الواقع، طلب وزني الانتظار 24 ساعة لدرس الخيارات الممكنة. في خلفية هذا الاقتراح، سعي لتجميد المهل لنحو شهرين، بما يؤدي عملياً إلى عدم إنهاء العقد، الذي ينصّ على إمكانية فسخه من قبل الشركة في حال عدم تمكّنها من الحصول على المعلومات التي تحتاج إليها للقيام بالتدقيق. صحيح أن العقد لا يتطرّق إلى تجميد كهذا أو تأجيل للمهل، إلا أن موافقة الطرفين على التعديل يمكن أن تلغي الإشكالية القانونية، من دون أن يتّضح ما إذا كان يمكن الاكتفاء باتفاق شفهي أو أن الأمر يحتاج إلى تعديل نص العقد.
(هيثم الموسوي)

وفد «ألفاريز» الذي يلتقي اليوم رئيسَي الجمهورية والحكومة، لا يبدو معترضاً على التمديد، لكن المشكلة تكمن في ما يمكن أن يتغيّر خلال هذه المدة. يعوّل الراغبون في التأجيل على متغيّرات قد تطرأ، ومنها إمكانية تقديم اقتراح قانون إلى المجلس النيابي يلزم المصرف المركزي بالتعاون مع شركة التدقيق وينزع عنه أي حجة قانونية. لكن بحسب، ما يتبيّن، فإن مسار الاقتراح، الذي سبق أن كشف عنه النائب إبراهيم كنعان، قد أجّل إلى حين تبيان نتيجة الخيارات الأخرى التي عرضت، ومنها الدراسة التي أعدّتها وزارة العدل، والمستندة إلى رأي هيئة الاستشارات والتشريع.
لم يكتف مصرف لبنان بعدم الرد على طلبات «ألفاريز»، بل حمّل مسؤولية فشل التدقيق للمؤسسات الحكومية. بعد اجتماع المجلس المركزي، أصدر المصرف بياناً أوحى فيه أنه لا يعترض على رأي هيئة الاستشارات. تجاهل أساس الاستشارة الذي يشير إلى أن مصرف لبنان ملزم بتنفيذ قرار مجلس الوزراء، وفي حال كانت بينها بيانات تخص زبائن لدى المصرف، يمكن استبدال الاسم برموز. وذهب إلى الفقرة التي تشير إلى أن «السرية المصرفية الملحوظة في القانون اللبناني لا تسري على حسابات الدولة وحسابات مصرف لبنان»، ليؤكد بالتالي أنه «سلّم كامل الحسابات العائدة له الى معالي وزير المالية وفقاً للأصول». لكنه لا يمكنه أن يسلّم الحسابات الخاصة بالدولة. وهي إذا أرادت ذلك، فيمكنها الطلب من مصرف لبنان، الأمر الذي «يجنّبه مخالفة قوانين السرية الملزمة قانوناً والتي يترتّب عن مخالفتها عواقب جزائية».
«المركزي» يحمّل المسؤولية للدولة: لم تطلب رفع السريّة عن حساباتها


يريد مصرف لبنان من كل مؤسسة حكومية أو معنية أن تتقدم بطلب رفع السرية عن حساباتها، بالرغم من أن قرار التدقيق صدر عن الحكومة مجتمعة، وبالرغم من أن الاستشارة التي تجيز له تسليم المعلومات، صدرت عن المستشار القانوني للدولة!
بحسب المعلومات، فإن المصرف المركزي اعتمد، في رفضه للتعاون مع «ألفاريز» وإصراره على تجاوز كل الطلبات الرسمية التي تلقّاها، على رأي قانوني قدّمه وزير العدل الأسبق إبراهيم نجار. نجار كان قد أشار إلى أن استشارة هيئة التشريع ليست ملزمة ولا هي قانون. والقانون لا يحتاج الى استشارة ليتم تطبيقه، بل يفرض نفسه. وبناءً عليه، أشار إلى أن «قانون السرية المصرفية هو قانون خاص، بينما قانون الوصول الى المعلومات (تطرقت إليه وزيرة العدل في الدراسة التي قدمتها إلى رئاسة الحكومة) الذي هو قانون عام، لا ينص على رفع السرية المصرفية. ومن المقرر أن القانون الخاص لا يُلغى بقانون عام، بل يسمو عليه ويحتاج إلى قانون خاص لإلغائه أو تعديله».
متسلحاً بهذا الرأي، قرر سلامة إنهاء التدقيق الجنائي. وهو إذ أكد أنه سلّم، وفقاً للقانون، كامل المستندات التي طلبتها كل من شركتَي التدقيق KPMG وOliver Wyman، فقد رسم بذلك المسار المقبول منه وممن يدعمه. في السياسة، يتعامل معظم الأفرقاء مع التدقيق الجنائي على أنه استحالة. حتى إقرار القانون يتم التعامل معه كاحتمال صعب المنال. خط الدفاع عن سلامة لم يتغيّر. بدون مواربة، يمنع نبيه بري وسعد الحريري المسّ بسلامة. وهما لم يغيّرا موقفهما بعد. ولذلك، فإن التعويل على الداخل محكوم بالفيتوات التي صارت واضحة.

المصالح الداخلية تعطّل التدقيق الجنائي: هل يفعّل الفرنسيون مبادرتهم؟

وهذه الفيتوات من المرجّح أن تتصاعد بعد أن يعود الحريري إلى رئاسة الحكومة. لا بديل، بحسب مصادر مطّلعة، من انتظار التوجهات الخارجية. الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سبق أن أكد، خلال زيارته للبنان على أولوية التدقيق الجنائي في مصرف لبنان. المبادرة الفرنسية تضمّنت التدقيق في حسابات مصرف لبنان أيضاً، فيما صندوق النقد الدولي يتمسك بالتدقيق في الحسابات المالية، من دون أن يكون ذلك مشروطاً بالتدقيق الجنائي. هنا بيت القصيد. لا أحد يبدو مستعداً لقلب الهيكل فوق رأس السلطة التي استفادت من سلامة وهندساته وألاعيبه لعقود. لكن في الوقت نفسه، لم يعد استمرار سلامة في منصبه مطلباً لأحد. التسوية التي سبق الحديث عنها ويبدو أنها لا تزال سارية المفعول، من دون أن يكون هنالك أي تقدير لتاريخ تنفيذها، هي الخروج الآمن لسلامة من حاكمية مصرف لبنان. والأخير، على ما تردد سابقاً، ليس معارضاً للفكرة، لكنه لا يريد تقديمها لجهات لبنانية. يريد حاكم المصرف المركزي ضمانة شخصية من ماكرون بعدم ملاحقته قضائياً بعد الاستقالة، على أن يترك لبنان ليعيش في الخارج ويسلّم مهامه الى من تختاره فرنسا. يسعى إلى نيل هذه الضمانة لاعتباره أن هناك من يريد جعله كبش فداء عن السياسيين. وقد سبق أن أبلغ فرنسا استعداده للعمل على الإصلاحات في القطاع المالي مع مصرف فرنسا المركزي وليس مع أي جهة أخرى.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا