القاهرة | دعوات المقاول والممثل المصري، محمد علي، إلى التظاهر، سواءً بعد خروجه من البلاد في آب/ أغسطس 2019 وكشفه قضايا فساد داخل المؤسسة العسكرية وأروقة النظام عامّة، أم في خلال هذا العام منذ العشرين من الشهر الجاري حتى اليوم، كبّدت النظام خسائر بالمليارات، في وقت يكتفي فيه الرئيس عبد الفتاح السيسي ومؤيّدوه بالحديث عن أن النظام لم يتضرّر. العام الماضي، اضطرّ السيسي إلى تقديم تنازلات، منها إعادة الدعم إلى نحو مليونَي مواطن، بعد حذفهم من قائمة مستحقي بطاقات التموين ضمن سياسة رفع الدعم عن الأسر المتوسّطة التي يرى «الجنرال» أنها ليست بحاجة إلى دعم (هؤلاء هم مَن تفوق قيمة رواتبهم 300 دولار شهرياً)، أي إنه حُمل على اتخاذ إجراءات عكسَ ما يريد لضمان شعبيته، فضلاً عن اتخاذه قراراً بإقامة مؤتمر للشباب ليتحدّث فيه مع المواطنين ويردّ بنفسه على المقاول الهارب الذي طاول انتقاده البذخ في الإنفاق على ترتيبات جنازة والدة الرئيس.هذا العام، استنفر النظام احترازياً في مواجهة دعوات علي إلى التظاهر، وذلك بمنع الضبّاط من الإجازات، وتعزيز الوجود الشرطي في الشارع بصورة لم تشهدها البلاد منذ ذكرى «25 يناير» الماضية، في حين بدا واضحاً أن خروج بعض التظاهرات المحدودة في القرى والمناطق الريفية أزعج السلطات. لكن فاتورة حالة الاستنفار تلك ليست التكلفة المادّية الأساسية هذه المرّة؛ إذ إن المقاول المقيم في إسبانيا دعا إلى الاعتراض على «قانون التصالح والمخالفات» الذي تبنّاه السيسي لجمع ما يقارب عشرة مليارات دولار من جيوب المواطنين، اعتماداً على التهديد بهدم العقارات المخالفة منذ 2008 حتى اليوم، وهي بمئات الآلاف، لكن الرئيس اضطرّ لاحقاً إلى التراجع بتخفيض الرسوم التي يفترض تحصيلها (راجع: سياسة الخوّات مستمرّة: عقارات المواطنين لدعم الاقتصاد! في 14 أيلول).
كذلك، بادر النظام إلى تقديم تنازلات مبكرة خاصة في الريف، استجابةً للتقارير الأمنية التي حذرت من خطورة الوضع هناك واحتقانه بصورة غير مسبوقة، بل الاستعداد للتظاهر على نحو لن يتمكّن الأمن من مواجهته. وهي تنازلات كان من شأنها الهبوط بالهدف في برنامج إزالة العقارات ليكون نحو أربعة مليارات فقط، جُمع منها بالفعل ما يقارب 750 مليون دولار حتى اليوم، هي مقدّمات جدّية للراغبين في التصالح. مع هذا، استمرّ اعتراض المصريين على مطالبتهم بدفع مزيد من الرسوم حتى لا تُهدَم منازلهم، بعدما دفعوا رشى للموظفين الحكوميين واستوفوا الإجراءات الشكلية، وهو ما أجبر النظام على تقديم مزيد من التسهيلات، ولا سيما في طريقة السداد، فضلاً عن تسهيلات أكبر للفقراء والأسر الأكثر احتياجاً.
اضطرّ السيسي إلى الخروج والحديث بنفسه مجدداً


لم يفلح السيسي في مواجهة علي بالتهديد والوعيد. فالرئيس الذي خرج ليُهدّد المصريين بنزول الجيش بعد شراء المعدّات اللازمة للهدم من أجل تنفيذ القرارات، هو نفسه الذي خرج أمس يُحدّثهم بصيغة الأب الحريص على أبنائه، والذي لن يسمح بأن تلحق بهم أيّ أضرار، مؤكداً أن أيّ شيء يمكن فعله في هذا المجال لن يتأخر فيه. ويأتي ذلك امتداداً لإجراءات امتصاص الاحتقان التي بدأت منذ ثلاثة أسابيع تقريباً، هي عمر الدعوة إلى التظاهر، ولم يتوقف فيها النظام عن تقديم تنازلات شبه يومية. حتى إن رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، خرج بتكليف رئاسي للحديث إلى المواطنين في لقاءات تلفزيونية، عن فوائد التصالح في العقارات والخدمات التي ستعود على المواطن من المبالغ التي سيُسدّدها. أما في حديث السيسي عن علي، فأكد الأول سعيه إلى تنفيذ ما يتحدّث عنه الثاني ضمناً، لكن ما بدا لافتاً هو تشديده على أنه يمكن للدولة أن تستجيب لأيّ مطالب شعبية من دون ضغط أطراف آخرين، في إشارة إلى علي وأيضاً جماعة «الإخوان المسلمون».
فعلياً، تراجع السيسي أمام علي، خاصة بعد التظاهرات التي خرجت على مدار الأيام الماضية - وإن كانت متواضعة -، والتي أوقعت قتيلاً واحداً على الأقلّ في العياط جنوب العاصمة، فيما جرى توقيف المئات وهم يخضعون الآن للتحقيق أمام نيابة أمن الدولة. الأهمّ أن الرئيس اضطر إلى التنازل واسترضاء الشارع؛ إذ قرّر صرف مكافأة للعمالة غير المنتظمة قدرها 500 جنيه حتى نهاية العام بسبب تداعيات جائحة كورونا، في خطوة جاءت بإعلان رئاسي واضح خلال افتتاح السيسي عدداً من المشروعات الخاصة بقطاع البترول، كما أن الرئيس اعترف بوجود غضب ينكره إعلام الدولة الذي لا يتوقف عن الحديث عن الإنجازات. أيضاً، اعترف في كلمته المطوّلة بأن «قرارات الإصلاح الاقتصادي صعبة»، وأن المواطن تحمّلها، لكنه رفض التشكيك في المشروعات التي يقوم على تنفيذها حالياً، محذراً من فوضى في حال رحيله عن الحكم على غرار ما حدث بعد 2011 عندما خرج المصريون على حسني مبارك وأسقطوه.
وتفيد تقارير حقوقية بأن أكثر من 300 شخص تمّ توقيفهم على مدار الأيام الماضية، بينهم 68 طفلاً أصدر النائب العام أمس قراراً بإخلاء سبيلهم، في وقت ينفي فيه الإعلام المحلي وجود تظاهرات، بل يُسلّط الضوء على احتفالات تُنظّمها الأجهزة الأمنية. وفي هذا الإطار، يراهن إعلام النظام على التشكيك الدائم في الإعلام الخارجي، وهي السياسة التي اتّبعتها المخابرات، حتى إنه تمّت فبركة تظاهرات من مجموعة كومبارس في مدينة الإنتاج الإعلامي، وأُرسل مقطع الفيديو إلى قنوات «الجزيرة» و«الشرق» التي بثّته بوصفه تظاهرة في القاهرة، لكن الهدف لم يكن مزايدة الإعلام المصري الخاضع لسيطرة المخابرات والتشكيك في ما يُبثّ من خارج البلاد فقط، بل أيضاً توقيف أيّ شخص يعمل مع «الجزيرة» وغيرها عبر الإبلاغ عن موقع تظاهرة ليست موجودة للقبض عليه.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا