يتعامل رياض سلامة مع مسألة رفع «الدعم» عن المواد الأساسية كتحصيل حاصل. بالنسبة له ما أن ينتهي الاحتياطي الذي لديه، والذي يقول إنه لا يتخطّى ملياري دولار، حتى يتوقف عن دعم استيراد المواد الرئيسية على السعر الرسمي للدولار. «اللهم إني بلغت»، قال للحكومة. رفع المسؤولية عن كاهِله وحمّلها لها. عليها أن تحسم أمرها سريعاً، لأنه توقّع أن لا يتمكن من دعم الواردات من المحروقات والدواء والقمح لأكثر من ثلاثة أشهر. هنا لا يفترض سلامة أن ثمة من يستطيع مساءلته عمّا فعله بأموال الناس. في عملية شراء الوقت، تمكّن من إزالة عقبة كبيرة من أمامه، هي حكومة حسان دياب. هو حكماً لن يتوقع أن تحاسبه حكومة يترأسها المصرفي سعد الحريري أو من يسميه. وهذا يعيد إطلاق يديه للعب بالسياسة النقدية مرة جديدة، بما يعنيه ذلك من إمعان في سرقة أموال الناس، التي كانت آخر تجلياتها الهيركات الإلزامي على الودائع بالدولار.يقول سلامة إن موجودات مصرف لبنان بالدولار انتهت، ولم يتبقَّ سوى الاحتياطي الإلزامي للمصارف الذي لا يمكنه المسّ به. يوحي سلامة أنه يحترم القانون، فيُعلن رفضه استعمال ١٧.٥ مليار دولار يسمّيها الاحتياطي الإلزامي للمصارف، فيما هي جزء يسير من ودائع الناس التي صرفها والتي تفوق قيمتها ٨٠ مليار دولار.
بالنتيجة، ماذا لو توقّف الدعم مع بداية العام المقبل، من دون أن تكون الحكومة قد وجدت أي بديل؟ لا أحد يملك الإجابة الشافية أو المطمئنة إلى إمكان ضبط الأسعار. يذهب أحد الاقتصاديين إلى القول إن الاستيراد سيتوقّف بشكل شبه كلي، وينحصر بالقادرين على تأمين الأموال الطازجة. الآخرون ستكون سبل العيش أمامهم محدودة.

ودائع لا احتياطي
لا حلول في الأفق، في ظلّ استمرار السياسة نفسها التي تتعامل مع رياض سلامة بوصفه صاحب الأمر. متى قال إن الاحتياطي انتهى توقّف العدّاد. عبثاً حاولت الحكومة الحصول على أرقام رسمية عن موجودات المصرف المركزي. في الأساس نظرية الاحتياطي الإلزامي للمصارف هي نظرية بحاجة إلى تدقيق. لا شيء في القانون اسمه احتياطي إلزامي بالعملات الأجنبية، بحسب الوزير السابق منصور بطيش. فالاحتياطي الإلزامي محصور بالعملة الوطنية، على أن يحدّد مصرف لبنان نسبته. أضف أن الاحتياطي الإلزامي لا يستفيد من الفوائد، فيما أموال المصارف المودعة في مصرف لبنان استفادت على مرّ السنوات من الفوائد. هذا كفيل باعتبار هذه الأموال ودائعَ إلزامية لدى المصرف المركزي لا احتياطياً إلزامياً، يقول بطيش. بالرغم من تطبيق هذه العملية منذ ثلاثين سنة، إلا أنه ليس واضحاً حتى اليوم لماذا يعطي مصرف لبنان فوائد للمصارف على ودائعها، طالما أنها إلزامية. الـ١٧.٥ مليار دولار التي يقول المصرف المركزي إنها الاحتياطي الإلزامي الذي لا يمكنه المسّ به، يدفع عليه سنوياً نحو ٦٠٠ مليون دولار فوائد من المالية العامة بدون وجه حقّ. تقدّر كلفة الفوائد المتراكمة على هذه الودائع بما يزيد على ١٠ مليارات دولار ذهبت كلّها إلى جيوب أصحاب المصارف.

(مروان طحطح)

التعميم الأساسي رقم 154 الذي أصدره سلامة أول من أمس يذهب إلى تأكيد نظرية أن المصارف ليست مُلزمة بوضع وديعة في المصرف المركزي مقابل الودائع التي تدخل إليها بالدولار. فهو يشير إلى إعفاء المصارف من إجراء توظيف إلزامي لدى مصرف لبنان بالعملات الأجنبية مقابل أيّ حساب خاص، في حال أقنعت عملاءها الذين حوّلوا ما يزيد على ٥٠٠ ألف دولار - منذ 2017 - إلى الخارج، بإيداع ١٥ في المئة من قيمة الأموال المحوّلة في حساب خاص مجمّد لخمس سنوات!
بحسب آخر التقديرات، فإن إجمالي الودائع في المصارف يصل اليوم إلى ١١٤ مليار دولار. ٨٤ مليار دولار منها مودعة في مصرف لبنان. من هذه الأموال، أقرض المصرف المركزي المصارف نفسها ما يعادل ٨ مليارات دولار، وتعامل مع ١٧.٥ مليار دولار منها على أنها ودائع إلزامية، فإن الباقي، أي الـ ٥٣.٥ مليار دولار هي أموال المودعين، فأين ذهبت هذه الأموال؟ بين الهندسات المالية والعجز في الميزان التجاري، إضافة إلى الفوائد المرتفعة التي أُعطيت لغير المقيمين وتهريب كبار المودعين نحو ٦ مليارات دولار إلى الخارج، طارت أموال الناس. وها هو رياض سلامة يبشّر بأنه لم يعد يملك المال لتمويل الاستيراد، بحجة الحفاظ على الاحتياطي الإلزامي، ما سيقود إلى رفع الدعم تدريجياً.

بدائل مجهولة
مصادر وزارة الاقتصاد تؤكّد أن لا مشروع لديها في الوقت الراهن، بعد أن «أُحبطت خطّتها السابقة لترشيد عملية الدعم، بحيث تقتصر على فئات محدّدة، يتم تزويدها ببطاقات دعم تعوّض الفارق بين السعر الرسمي للدولار وسعر المنصة». أما وزارة الطاقة، فقد بدأت بالتواصل مع مصرف لبنان لمناقشة السيناريوات المحتملة، كي لا يُرفع الدعم نهائياً، على ما يؤكد وزير الطاقة ريمون غجر. لا توقعات متفائلة. كل العمل ينصبّ على إمكانية تمديد فترة الدعم قليلاً. بدلاً من ثلاثة أشهر فلتكن أربعة… من الاحتمالات تخفيض نسبة الدعم. بدلاً من تأمين مصرف لبنان لــ٩٠ في المئة من أسعار المحروقات على سعر الصرف الرسمي، يمكن أن تنخفض هذه النسبة إلى ٧٠ أو ٥٠ في المئة. هذا يعني بحسب الوزارة أن سعر صفيحة البنزين لن يشهد ارتفاعات قاسية. على سبيل المثال، قد يرتفع إلى نحو ٣٠ ألفاً. لكن كل ذلك مرهون بإجابة سلامة الذي يُفترض أن يحدّد فيها إمكانيات مصرف لبنان. لكن الأسوأ أن النقاش الحالي مرتبط بالأشهر المقبلة فقط. لا أحد يملك إجابة عما سيحصل مع بداية العام المقبل. هل يبقي المصرف المركزي على دعم محدود لأصناف محددة، أو يعلن نضوب الدولارات لديه؟ مصادر معنيّة مباشرة بالأمر تقول: لا شيء واضح!
لا وضوح في تحديد الفئات التي يُفترض دعمها


الأكيد أن منحى رفع الدعم قد بدأ. ويبقى انتظار الآليات والنتائج، وسط إشارات إلى التدرّج في رفع الدعم. بحسب المعلومات، فإنّ السعي حالياً يذهب باتجاه تحديد الفئات التي يُفترض دعمها لتجنب التأثير الشديد للارتفاع المتوقّع في الأسعار. تلك معضلة لم يجد لها أحد من المعنيين حلاً. أي الفئات تدعم؟ لا جواب. لكن «الأخبار» علمت أن سلامة يبحث اعتماد بطاقة مصرفية أو شبيهة بها، توزّع على الفئات المدعومة، وتحتوي مبلغاً شهرياً، يُعوّض الخسارة التي ستتعرض لها جرّاء توقّف الدعم.

زمن الـ1515 انتهى
تؤكد مصادر مطلعة أن النقاش حالياً يتركّز على الخروج من عباءة اعتمادات الـ١٥١٥ ليرة لكن ليس باتجاه سعر السوق، بل باتجاه سعر المنصة الإلكترونية، أي إلى ٣٩٠٠ ليرة حالياً. توفير ٢٤٠٠ ليرة عن كل دولار يؤمّنه مصرف لبنان يشكل له متنفساً، لكنه يقضي على أيّ متنفس للناس. الأسوأ أن هذا السعر ليس ثابتاً. في حال تحقيق المزيد من الانهيارات في سعر الصرف، من المتوقّع أن يرتفع سعر المنصة. ما يعني بالتالي، ارتفاع سعر المواد الأساسية، التي كانت مدعومة على السعر الرسمي إلى ما يُقارب سعر السوق حالياً. لكن هذا النقاش قد يُصبح بلا معنى إذا أعلن مصرف لبنان أنه لم يعد يملك الدولارات في الأساس. لا بديل عندئذٍ عن سعر السوق. وهذا سيؤدّي إلى كارثة اجتماعية خطيرة. وزارة الطاقة، على سبيل المثال، أجرت دراسة للاحتمالات، تبيّن لها أن على سعر برميل نفط يبلغ ٥٠ دولاراً، فإن سعر صفيحة البنزين سيصل إلى ٦٠ ألفاً، مقابل ٤٠ ألفاً لسعر صفيحة المازوت.

الوزارات تائهة في التعامل مع مرحلة ما بعد رفع الدعم


المشكلة الكبرى تتجسّد في رفع الدعم عن الدواء أو القمح. في المجلس المركزي لمصرف لبنان نقاش بشأن استثناء الدواء، لكنه لم يُحسم بعد ما إذا كان يمكن الإبقاء على دعمه على السعر الرسمي. إذ إنه حتى لو أمّن مصرف لبنان الدولارات على سعر ٣٩٠٠ لا على سعر السوق، فإن الأسعار ستؤدي إلى عجز فئات عديدة عن تأمين دوائها. فاتورة القمح لا مبرّر لرفع الدعم عنها أيضاً. القيمة السنوية لاستيراد القمح لا تتخطى ١٥٠ مليون دولار. لكن مرة جديدة يستعمل مصرف لبنان ورقة «لم أعد أملك الدولارات».
عملياً، وبعدما كان النقاش محسوماً في عدم المسّ بسعر الصرف الرسمي إلى حين الاتّفاق مع صندوق النقد الدولي، بما لا يؤدّي إلى كارثة اجتماعية واقتصادية، في حال لم يتمكّن مصرف لبنان من ضخّ الدولارات في السوق، فإنّ الإجراءات المتوقّعة، من اليوم وحتى نهاية العام، تؤكد أن تغيير سعر الصرف صار أمراً واقعاً. في الأساس لم يكن السعر الرسمي معمولاً به سوى لاستيراد المحروقات والقمح والدواء وفي التعاملات المصرفية. بعد إلغاء الدعم عن هذه السلع، مقروناً بالقرار الذي يلزم الشركات والمغتربين تسديد قروضهم بالدولار النقدي أو على سعر المنصة، يكون سعر الـ١٥١٥ قد تلاشى. لا يبقى معمولاً به سوى بالنسبة إلى قروض الأفراد. للمناسبة، يتغاضى هذا الإجراء عن واقع تشجيع المصرف المركزي عمليات التسليف بالدولار لسنوات عديدة والذي كانت نتيجته هدر ٢٤ مليار دولار هي قيمة القروض بالدولار، ٥ مليارات بالحد الأدنى منها ذهبت إلى الخارج.



المصارف تقيّد استيراد السلة الغذائية: مطلوب أموال طازجة!
نادراً ما يلحظ المتسوّقون مواد استهلاكية أو غذائية من تلك المشمولة بالسلة المدعومة على سعر ٣٩٠٠ ليرة للدولار. حجة أن التجّار يريدون تصريف السلع التي اشتروها على سعر السوق قبل الشروع بشراء وبيع المنتجات المدعومة لم تعُد تجدي نفعاً. فبعد ثلاثة أشهر لم يتغيّر المشهد. أصناف لا تتعدى عدد أصابع اليدين (أبرزها بعض أنواع التونا، العدس الأصفر، الأرز المصري، زيت دوّار الشمس) هي التي يمكن ملاحظتها في المتاجر، وغالباً ما تكون ممهورة بعبارة «سلعة مدعومة». بعض الشركات يذهب إلى اعتبار الدعم عرضاً ترويجياً، فتمهر منتجاتها بعبارة «وصل الدعم». غالبية السلع الأخرى أسعارها تحلّق على سعر السوق.
عند التدقيق، تبيّن أن وزارة الاقتصاد لم ترفض أي طلب مستوفٍ للشروط، بل على العكس، وافقت على كل الطلبات، وحوّلت أصحابها إلى المصارف التي يتعاملون معها لفتح الاعتماد. هناك يتّضح أن فتح أي اعتماد على سعر ٣٩٠٠ ليرة للدولار مشروط بتأمين الأموال نقداً، حتى لو كان التاجر أو المستورد يملك الأموال المطلوبة في حسابه المصرفي. تتعامل المصارف مع أموال الناس على أنها ملكها، فلا تتردّد في طلب أموال طازجة من الزبون. تلك فكرة ابتدعها المجلس المركزي لمصرف لبنان ظنّاً منه أنه بذلك يتمكّن من سحب الأموال الموجودة خارج النظام المصرفي، حتى لو كانت بالليرة اللبنانية. هذا يعني أن التاجر الذي يريد استيراد بضاعة بمليون دولار يحتاج إلى تأمين ٤ مليارات ليرة نقداً!
بالنتيجة، لم يتمكن أغلب التجار من الاستفادة من الدعم المعروض، واقتصر الأمر على استفادة بعض التجار الكبار القادرين على تأمين مبالغ كبيرة من النقد.
وعليه، فإنّ التوقعات بانخفاض أسعار سلة واسعة من السلة الغذائية لم يتحقّق منها سوى ٦ في المئة. فلم يُصرف على هذه السلة سوى ١٢٠ مليون دولار خلال ثلاثة أشهر، في حين أن مصرف لبنان خصص ٢١٠ ملايين دولار لها شهرياً.
ببساطة أعطى مصرف لبنان بيد وحجب بيد. بشّر الناس بانخفاض أسعار السلة الغذائية التي تضم نحو ٣٠٠ سلعة، ومنع التجار من استعمال أموالهم المحجوزة في المصارف، لدفع ثمن هذه السلع!

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا