قبل نحو خمسة عشر عاماً، دخلت سوريا نادي الدول الأقلّ مديونية خارجية، وذلك على خلفية اتفاقها مع روسيا على تسوية كتلة الديون المترتّبة عليها لمصلحة الاتحاد السوفياتي السابق، والبالغة آنذاك حوالى 14.5 مليار دولار. لكن، سرعان ما جاءت الحرب وغَيّرت من تلك المعادلة، لتتحوّل سوريا إلى بلد مديون داخلياً، وخارجياً أيضاً وإن بنسبة أقلّ. وبحسب أحدث تقديرات «المركز السوري لبحوث السياسات»، فقد ارتفع إجمالي الدين العام من حوالى 30% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2010، إلى حوالى 208% في عام 2019.كان واضحاً، منذ بداية الحرب، أن سياسات بعض الدول تقوم على تجفيف مصادر إيرادات الخزينة السورية، سواء تلك المتأتية من صادرات النفط والفوسفات وغيرهما من الثروات الوطنية المهمة، أو تلك التي توفرها القاعدة الإنتاجية الداخلية، وذلك بغية تحقيق واحد من اثنين: إما إجبار الحكومة السورية على تقليص إنفاقها إلى حدود تُفقدها السيطرة الاقتصادية على البلاد وتضعف قدراتها العسكرية، أو دفعها إلى الاقتراض الداخلي والخارجي وإغراقها في مستنقع التضخّم والغلاء الكفيلين بتأليب الحاضنة الشعبية لـ«النظام» عليه. للأسف، هذا ما تحقّق جزئياً، من خلال لجوء الحكومات المتعاقبة إلى اتباع سياسة «التمويل بالعجز»، باعتبارها الطريق الأسهل. ووفقاً لدراسة صادرة عن «مركز دمشق للدراسات والأبحاث»، فإن قيمة الدين الداخلي وحده وصلت مع نهاية عام 2015 إلى حوالى 3400 مليار ليرة، فيما تشير بعض التقديرات إلى ارتفاع الرقم إلى حوالى 7 آلاف مليار ليرة بنهاية عام 2019.

تراجع الإيرادات وازدياد العجز
عوامل كثيرة أدّت إلى تراجع إيرادات الخزينة السورية خلال السنوات التسع الأخيرة. أوّلها تضرّر القاعدة الإنتاجية للبلاد نتيجة وقوعها داخل دائرة المعارك، وثانيها خروج مناطق واسعة عن سيطرة الحكومة، ما أدى إلى توقّف توريد جزء كبير من إيرادات الضرائب والرسوم، وثالثها العقوبات الغربية التي ضربت مصادر الإيرادات، وخصوصاً في قطاع النفط الذي كانت صادراته المورّد الرئيس للقطع الأجنبي، وما تلا ذلك من تجميد للأموال السورية في الخارج، وصولاً إلى محاولة استهداف عمليات استيراد مكوّنات الموادّ الأولية اللازمة للقطاعين الصناعي والزراعي. أما العامل الرابع، فتتحمّل مسؤوليته الحكومات المتعاقبة، كونه متصلاً بالسياسة المالية والضريبية القائمة على تحصيل أكبر قدر ممكن من الرسوم والضرائب غير المباشرة، وإهمال الضرائب المباشرة، وخاصة تلك المفترض تطبيقها على الأغنياء ورجال الأعمال وأصحاب القدرات التكليفية العالية، والذين زاد عددهم بشكل كبير خلال سنوات الأزمة، حيث استغلّوا موارد الدولة وثرواتها وهرّبوا أرباحهم إلى الخارج، مستفيدين في ذلك من شبكة الفساد الذي تمأسس في خلال فترة الحرب.
لجأت الحكومات منذ عام 2012 إلى الاقتراض من المركزي لتغطية إنفاقها


بناءً على ما تقدّم، كان من الطبيعي أن يزداد العجز المتوقّع في موازنات الأعوام الممتدّة من عام 2012 لغاية اليوم، ولا سيما أن الأمر لا يتعلق فقط بالتراجع الكبير في الإيرادات الحكومية، وإنما أيضاً بانهيار القوة الشرائية للإيرادات. وفي هذا السياق، ذكر وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية، سامر خليل، خلال ندوة عُقدت أخيراً في دمشق، أن «قوائم المالية العامة أظهرت وجود عجز كبير خلال سنوات الحرب بسبب الفجوة المتشكّلة بين الإيرادات القليلة والإنفاق المتزايد». وتأكيداً لما سبق، تشير البيانات الرسمية إلى أن العجز المتوقع في موازنة العام الحالي قُدّر بحوالى 37.3%، فيما قُدّر في موازنة عام 2018 بما نسبته 25.3%، وفي موازنة عام 2017 بحوالى 27.88%، وفي موازنة 2016 بحوالى 31.3%. أما في موازنة عام 2014، فقد قُدّر بحوالى 40.5%. وبحسب تقديرات «المركز السوري لبحوث السياسات»، فقد شكّلت إيرادات الحكومة في عام 2010 ما نسبته حوالى 30.1% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، إلا أنها مع بدء الأزمة أخذت بالتراجع، لتعاود الارتفاع في عام 2014 مسجّلة 12.6%، قبل أن تعاود الانخفاض في عام 2015 حيث سجّلت 10.3%. وفي عام 2017، سجّلت ثاني أدنى نسبة خلال سنوات الحرب (7.8%)، بعد أولى سُجّلت في العام الماضي (7.4%).

الحلّ الأسهل
فضّلت الحكومات المتعاقبة، في معالجتها التراجع الحادّ في الإيرادات وارتفاع حجم الإنفاق الحكومي، اللجوء إلى الخيار الأسهل والأسرع المتمثل في «التمويل بالعجز»، وذلك عبر الاستدانة من المصرف المركزي. وبحسب ما يذكر الباحث ربيع نصر، فإن الحكومة «لجأت منذ عام 2012 إلى الاقتراض من المركزي لتغطية إنفاقها، ومن ضمنه تمويل بند الرواتب، من دون أن تدرك عواقب ذلك». ويضيف نصر، في حديثه إلى «الأخبار»، إن «هناك إشكاليتين في هذا الملف، الأولى تتعلق بواقع سعر صرف الليرة عند عملية الاقتراض وعند عملية السداد، وهذا ما يجعل المبلغ المسدّد ليس حقيقياً، والثانية تتصل بعملية الإقراض نفسها التي تتمّ من دون أيّ مسؤولية في السداد أو إمكانية التغطية». وتظهر التقديرات غير الرسمية أن نسبة الدين الداخلي من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي ارتفعت من حوالى 17% في عام 2010 إلى حوالى 92% في عام 2019، علماً بأن العامين 2013 و2014 سجّلا أعلى نسبة للدين الداخلي من الناتج الإجمالي (107% و109% توالياً). أما أقلّ نسبة خلال سنوات الأزمة فكانت في عام 2011 بحوالى 39%.
وتُمثل زيادة حجم الدين الداخلي والإصدار النقدي غير المغطّى إنتاجياً سبباً رئيساً في تضخم الأسعار وتدهور سعر الصرف. وفي هذا الإطار، يبيّن الأستاذ الجامعي، إلياس نجمة، في حديث إلى «الأخبار»، أن «سعر صرف الدولار يتأثر ويرتفع بالتوازي مع ظاهرة ارتفاع الأسعار الناجمة بشكل أساسي عن عجز الموازنة، والذي يتمّ تمويله مع الأسف عبر الإصدار النقدي». ويضيف إن «هذا الحلّ السهل يؤدّي إلى إغراق السوق بتدفقات نقدية لا يقابلها عرض مواز وكاف من السلع والخدمات لامتصاصها، فترتفع جميع الأسعار بنسب متفاوتة، وخصوصاً أسعار السلع القابلة للتسييل بسهولة، كالذهب والعملات الأجنبية وأهمها الدولار». والأخطر، كما يقول نجمة، هو أن «التضخم يأكل موارد الدولة أكثر مما يأكل موارد الأفراد، لأن جميع مواردها نقدية».
حاولت الحكومة، متأخرة، البحث عن مصادر جديدة للإيرادات، وتمكّنت بين عامي 2017 و2019 من استعادة ما يقرب من 180 مليار ليرة في معالجتها ملف القروض المتعثّرة، وحوالى 76 مليار ليرة من إعادة النظر في بدلات استثمار أملاك الدولة المؤجّرة للقطاع الخاص، وحوالى 35 مليار ليرة جرّاء رفع بدلات استثمار المقالع والعائدات النفطية وغير ذلك. كما طرحت بداية هذا العام، ولأول مرة، سندات خزينة بالليرة السورية، وجذبت بفضلها ما يقرب من 140 مليار ليرة، إلا أن تأخر البلاد في استعادة إمكاناتها الإنتاجية، واستمرار السياسة الضريبية على حالها، أسهما في استدامة الفجوة بين كتلة الإيرادات وحجم الإنفاق المتزايد. وتالياً، فإن التمويل بالعجز سيظلّ خياراً محتملاً في موازنات الأعوام المقبلة.