لم يكن اللجوء إلى صندوق النقد الدولي سوى خيار السلطة التي عادت لترى أن الصندوق لا يلائم استمرارية فسادها وزبائنيتها، فقرّرت إطاحته وتنفيذ مخطّط آخر يديره حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، بتغطية من الائتلاف السياسي الحاكم داخل الدولة وخارجها، عبر لجنة المال والموازنة ومجلس النواب. هذا المخطّط يجعل سعر صرف الليرة مقابل الدولار بلا سقف، ويؤجّج تضخّم الأسعار، ويشطب مداخيل الأجراء، ويدمّر القطاع الخاص… كل ذلك بهدف السطو على ما تبقّى من مقدرات لبنان. سلوك السلطة يجعل التجارب السلبية التي وسمت برامج الصندوق مع الدول المفلسة خياراً لا يقارن بما ينتظر اللبنانيين في حال فوزها بما تريد.هذه المفاضلة السوداء المفروضة على اللبنانيين كانت واضحة للعيان أمس، في الجلسة السادسة عشرة من مفاوضات لبنان مع ممثلي الصندوق. ساد الانطباع لاحقاً كأن الصندوق يعلّق المفاوضات حتى إشعار آخر. وظهر ذلك جلياً بقول رئيس الوفد المفاوض مارتن سيريزولا للوفد اللبناني: اتفقوا وتعالوا. كما ظهر استياء الصندوق من نتائج الخطة التي يمارسها حاكم مصرف لبنان عندما قال له: أنت تشعل السوق السوداء لسعر الصرف. أنت تواصل الإنكار.
الجلسة التي أُرجئت مرّتين لأسباب غير واضحة، خُصّصت للنقاش في مسألة تحديد الخسائر في القطاع المالي وكيفية التعامل معها. شرح سيريزولا، في البداية، أنه عقد جلسة انفرادية مع سلامة، وأخرى مع ممثلي لجنة المال والموازنة، وتبيّن له وجود فوارق كبيرة في تحديد خسائر القطاع المالي وآليات الاحتساب. «لم نتوصل إلى اتفاق بشأن تحديد الخسائر»، قال سيريزولا، مشيراً إلى أن خسائر مصرف لبنان هي مطلوبات عليه للمصارف، كما أنها مطلوبات على المصارف تجاه المودعين، لذا «لا نعرف على أي مسار سنعمل معكم. وإذا لم تكن هناك أرقام موحّدة، فكيف سنكمل هذه المفاوضات؟».
سلامة ردّ على المفاوض الدولي بالقول: «نحن حدّدنا الخسائر استناداً إلى معايير محاسبية دولية، لكن إذا كان هذا ما تريدونه فسنسير بخطّة الحكومة وبما تقولونه». فردّ عليه سيريزولا قائلاً: «أنت لا تستعمل معايير محاسبية دولية، لأنك تقول إن الأموال التي أخذتها من المصارف غير مستحقة اليوم بينما هي أموال مستحقة للمودعين. الفرق أننا ننظر إلى الأمر من وجهة التأثير الاقتصادي، بينما تنظر إليها أنت بطريقة محاسبية، وها هو الدولار اليوم في سوق بيروت يبلغ 9 آلاف ليرة. والأرقام أرقام. وتقديرنا للخسائر يفوق تقديرات الحكومة لها».
بدم بارد أجاب سلامة بأن السوق الموازية صغيرة الحجم ولا تتجاوز ثمانية ملايين دولار يومياً ولا يعوّل عليها في تحديد سعر الصرف، مستطرداً في الحديث عن المنصة الإلكترونية والآليات التي اعتمدت مع الصرافين للحصول على الدولارات. عندها ردّ سيريزولا على سلامة بغضب، قائلاً: «إذا كنت في حالة إنكار، فهذا يعني أنك لا تتقبّل أن السعر الحقيقي هو الموجود في السوق السوداء. أنت تشعل سعر الصرف: كل من لديه 100 دولار يمكنه أن يصرفها في السوق السوداء بقيمة 9 آلاف ليرة، ويشتري بها من الصرافين 300 دولار». ولم يستثن سيريزولا من انتقاداته الحكومة التي «تتحدث منذ شهرين عن خطّة التزمت بها، لكنها لم تنفذ منها شيئاً. عندما يكون هناك اقتراح خطّة بديلة من البرلمان، فهذا يعني أنه غير موافق على خطّة الحكومة، وأنها لا تزال حبراً على ورق. ونحن بصراحة لا نرى دعم الحكومة لخطتها. حتى الآن لم تقوموا بأي إصلاحات… إذا كنتم ملتزمين بالخطّة فلم لا تنفذون؟ نحن نشعر أنكم ترون أن مسألة تحديد الخسائر هي مسألة شكلية، فيما هي ليست كذلك (...) أكثر من مرة قلنا لكم إن وقف تدهور سعر الصرف يتطلب إقرار كابيتال كونترول». وعندما تدخّل وزير المال غازي وزني مشيراً إلى أن «المشروع سيكون جاهزاً خلال أسبوعين»، ردّ سيريزولا بانفعال: «ليس لديكم أسبوعان»!
لا إصلاح من دون إعادة هيكلة القطاع المالي ورسملة المصارف بدولارات جديدة


وعندما حاول سلامة استعادة المبادرة للحديث عن عجز المالية العامة وتمويله ما يؤدي إلى ارتفاع الطلب على السلع المستوردة بالدولار، قال له سيريزولا: «لا تذهب بعيداً عن الموضوع الأساسي. هذا الحديث نعرفه، ولن يعفيك من الخسائر المحققة».
ورغم أن بعض عبارات المفاوض الدولي قد تعبّر عن تكتيك تفاوضي يمارسه الصندوق مع البلدان التي تطلب برامج تمويلية، إلا أنها فجّة في واقعيتها، وذات دلالة واضحة على أن قوى السلطة مستعدة لإحراق الأخضر واليابس من أجل بقائها والسيطرة على ما تبقى من مقدرات لبنان.
عملياً، هذا ما تفعله قوى السلطة اليوم من خلال إقصاء كل من يرفض خطّة المصارف التي أُعدّت في مصرف لبنان وتبنّتها لجنة المال والموازنة. فهي تركت الحريّة لسلامة لطبع كميات هائلة من العملة تُسهم في تأجيج سعر الصرف وتضخّم أسعار السلع والخدمات بهدف تحرير التزاماته بالدولار تجاه المصارف، وتحرير التزامات المصارف تجاه المودعين. الانهيار الحاصل في سعر صرف الليرة مقابل الدولار وتجاوزه أمس سقف الـ 9 آلاف ليرة، هما بالتحديد رغبة قوى السلطة للحفاظ على فسادها.
وقد جاءت انتقادات سيريزولا بعد استقالة المدير العام للمالية ألان بيفاني وإشارته الواضحة إلى طبيعة الصراع على توزيع الخسائر في مصرف لبنان والمصارف، مشيراً إلى أن «ما يُعيد الودائع هو محو الخسائر بإعادة الرسملة وليس إطالة الآجال». كذلك تأتي بعد اعلان وزني في جلسة مجلس الوزراء، أول من أمس، أن مرجعيته السياسية ترفض تكليف شركة تدقيق جنائي في حسابات مصرف لبنان.
عبارة بيفاني تختصر الصراع الحاصل على تحديد الخسائر وتوزيعها، تماماً كعبارات سيريزولا. ما قاله هذا الأخير كان واضحاً: «ليست هناك أرقام موحّدة للخسائر، ولا نعرف كيف سنواصل هذه المفاوضات». هذا هو الأمل الذي تنتظره قوى السلطة: إقصاء صندوق النقد أيضاً، وفرض خطّة بديلة تتضمن السطو على أراضي الدولة وملكياتها في الكهرباء والمياه والخلوي والميدل إيست والكازينو والمرفأ… بدل أن تتمسّك بشطب الخسائر وتنظيف القطاع المالي منها وإعادة هيكلة القطاع من خلال إجباره على زيادة رساميله بدولارات طازجة من أرباحه الطائلة المحققة بقوّة الفساد في السنوات الماضية.



خطوات الصندوق الخمس
رغم المناقشات الطويلة مع الجانب اللبناني، إلا أن إدارة صندوق النقد الدولي لا تزال تطلب من فريقها التفاوضي تذكير لبنان بأولويات لا تراجع عنها. في الحسابات الاولى، لا يزال يرى الصندوق أن مقاربة الحكومة لتحديد الخسائر هي الأقرب إلى أرقامه وإلى الواقع، لكنه يذكّر الجميع، كل الوقت، بما يعتقد أنه «الخطوات الضرورية لانطلاق عملية الإصلاح، وعناوينها، وهي: تحرير سعر صرف الليرة مقابل الدولار، رفع الدعم عن الاستيراد وعن السلع والخدمات، بما فيها الكهرباء، تقليص القطاع العام وإعادة هيكلته، بما في ذلك إعادة هيكلة نظام التقاعد ومدفوعاته، خصخصة الكهرباء، وإعادة هيكلة القطاع المالي.