بغداد | فصول «مداهمة البوعيثة» مستمرة. أمس، أُخليَ سبيل الموقوفين الـ 14، لـ«عدم كفاية الأدلّة»، رغم إعلان «قيادة العمليات المشتركة»، قبل أيّام، أن «جهاز مكافحة الإرهاب ألقى القبض على المتهمين مع المبرزات الجرميّة». اعتقال «جهاز مكافحة الإرهاب» المنتسبين الـ 14 إلى «الحشد الشعبي»، ومن ثم قيام قوّة من الأخير بمحاصرة مقارّ الأوّل في المنطقة الخضراء وسط بغداد، وتبعات التوتر المستمرة، تقدّمها روايتان متناقضتان: واحدة رسميّة يتمسّك بها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، وفريقه، وأخرى تبنّتها فصائل المقاومة، بعدما تولّت «كتائب حزب الله - العراق» تقديمها، وهي تنسجم مع تعليقات بعض قيادات «الحشد الشعبي» البارزة على الرواية الرسميّة؛ في المداهمة (فجر الجمعة 26 حزيران/ يونيو الجاري)، ثمّة «دورٌ» لعبته قوات الاحتلال الأميركي، وهذا ما دفع بفصائل المقاومة، طوال الأيّام الماضية، إلى تحذير الكاظمي من ردود فعل غير متوقّعة «كادت تطيح الكاظمي وحكومته، بُعيد حصار المنطقة الخضراء، وبعض المقار الأمنيّة»، كما يعبّر قيادي بارز في حديث إلى «الأخبار».إزاء هذا «التناقض»، ثمّة من يسأل مصوّباً، بطريقة غير مباشرة، على الكاظمي، وسلوكه أخيراً. يتساءل هؤلاء عن سبب إخلاء سبيل الموقوفين الـ14، خاصّة أنّهم اعتقلوا بـ«الجرم المشهود... وأثناء الإعداد لهجوم صاروخي على الخضراء». إخلاء سبيلهم أظهر رئيس الوزراء «ضعيفاً وعاجزاً أمام سطوة الأحزاب»، كما يعبّر هؤلاء. موقف لا يُحسد الكاظمي عليه، وهو الذي سبق أن أكّد مراراً ضرورة «حصر السلاح بيد الدولة، والعمل على استعادة هيبتها». ويسأل البعض: أمّا إن كانت التهمة قد لُفّقت لهؤلاء الـ14، فمن نصح الكاظمي بهذه الخطوة؟ ولماذا الآن، وفي هذا التوقيت تحديداً؟ ومن هو المستفيد؟ هل أراد الكاظمي أن يحرف الأنظار عن فشل حكومته في مكافحة جائحة «كورونا»؟
يتمسّك المقرّبون من الكاظمي بالرواية الرسمية. يرفضون ما نُشر عن اعتذاره أمام قادة كُتل «البيت الشيعي»، قبل يومين. يؤكّدون أن العمليّة «عراقيّة خالصة، لم تشارك القوّات الأميركيّة أو التحالف فيها». يضيف هؤلاء أن «المداهمة جاءت بناءً على معلومات استخباريّة دقيقة... والبصمة الصوتيّة لأحد المعتقلين مطابقة لبصمات متوفّرة لدى الأجهزة الأمنيّة». فريق الكاظمي يولي أهمية قصوى للتحدّي الأمني على حساب التحدّي الصحّي، علماً بأن البلاد مشغولة اليوم بحديثين: تفشّي جائحة «كورونا» وسبل المواجهة، بالدرجة الأولى، وتأمين الرواتب الشهرية لموظفي القطاع العام بالدرجة الثانية.
يسعى الساعدي إلى «الثأر» ممن تسبّب في إقالته


وعن التحدّي الأمني، ثمّة إجماع سياسي على ضرورة «تأجيل النقاش والإجراءات» إلى وقت لاحق، مع اقتراب موعد زيارة الكاظمي لطهران وواشنطن، على حدّ سواء، وتوقيعه مع الإدارة الأميركيّة مذكرة تفاهم (أمنيّة بالدرجة الأولى) يُنظّم من خلالها انسحاب قوات الاحتلال في غضون عامين على أكثر تقدير. هذا الإجماع خرقه الكاظمي، مقتنعاً بضرورة «طمأنة المؤثّرين الإقليميين والدوليين، والطبقة السياسة والمواطن، إلى أن الحكومة ملتزمة بضبط التفلّت الأمني». مقولة لم تنل إعجاب الطبقة السياسيّة، من داعمي الكاظمي وخصومه؛ فوفق هؤلاء، «آليّات حل موضوع معقّد كهذا لا تكون عن طريق المواجهة أو الاحتكاك بين أجهزة الدولة، بل بالتواصل مع الجهة المعنيّة (رئاسة هيئة الحشد)، وإسناد مهمّة الحلّ والمعالجة إليها».
يتقاذف الكاظمي وقائد جهاز «مكافحة الإرهاب»، عبد الوهاب الساعدي، كرة المسؤوليّة. الدوافع الخاصة حاضرة وبقوّة؛ يسعى الأوّل إلى تثبيت نفسه كرقم صعب في المعادلة الأمنيّة – الميدانيّة المعقدّة، مطوّعاً «جهازي المخابرات ومكافحة الإرهاب» لهذا الغرض. أمّا الثاني، فيسعى إلى «الثأر» ممن تسبّب في إقالته، إذ يُنقل عنه اتهامه لبعض وجوه «الحشد» بتلفيق «تهمة الانقلاب» (مطلع شهر تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي). داخليّاً، يتقاذف الرجلان كرة المسؤوليّة. خارجيّاً، الكاظمي مطمئن إلى أن خطوته هذه «لن تزعج طهران» التي نأت بنفسها عن التدخّل في التفاصيل العراقيّة اليوميّة. في المقابل، يبرز موقف «الكتائب» والفصائل، وتأكيدها أن ردّ فعلها «كان محسوباً... فكيف لعاقل أن يتصوّر أن الكتائب تتحرّك وتعمل خارج إطار المحور برمّته...». الموقف لم يقتصر على هذا الحدّ، بل بالتشديد أيضاً على ضرورة «الاحتفاظ بالسلاح»، وتأكيد اتهام الكاظمي بـ«التعاون مع الأميركيين في مداهمة البوعيثة».
خسر الكاظمي جولة في سياق مواجهة فرضت نفسها، وستكرّس في الأيّام المقبلة. سلاح الفصائل «خط أحمر»، هذا ما أُبلغ به الرجل. المشهد معقّد للغاية، مع ارتفاع منسوب «السخط» على الحكومة، وقابل للانفجار في تموز/ يونيو المقبل، وهو ما ترجّحه مصادر سياسية بارزة.