على وتيرة واحدة تعزف وسائل الإعلام الخليجية هذه الأيام. أحداث مدينة المقدادية في محافظة ديالى العراقية باتت الشغل الشاغل لتلك الوسائل. كيفما قَلَّبت في التغطية السعودية والقطرية للديناميات العراقية الراهنة لا تعثر إلا على كمّ مهول من الحملات التي تخفي تحريضاً بخلفيات طائفية ومذهبية، وكل ذلك تحت ستار "ما يتعرض له أهل السنّة" في المقدادية. وتسهب قناة "الجزيرة" وأخواتها في التهويل، متحدثة عن حصار تتعرض له المقدادية من قبل "الميليشيات الشيعية"، ومحمّلة "الحشد الشعبي" بكل تشكيلاته والمرجعية الدينية ورئاسة الوزراء مسؤولية وقائع الثاني عشر من كانون الثاني الجاري.
تتحدث وسائل الإعلام هذه عن أن لديها شهادات عن فظاعات أعقبت تفجير عدد من المساجد في ثاني أكبر أقضية ديالى. وتتحدث دونما أدلة، عن عمليات قطع رؤوس والمشي بها في الأسواق، أو دوس مسنين بالأقدام على وقع الشتائم الطائفية، أو ربط رجال بمآذن المساجد قبل تفجيرها والرجال معاً. لكنها تعجز عن تقديم شهادة صورية أو صوتية واحدة تثبت صحة تلك الادعاءات. علماً بأن هذه الوسائل تعمد فوراً، إلى إلصاق هذه الفظاعات المزعومة بـ"الحشد الشعبي"، تماماً كما يجري اتهام الحكومة العراقية بـ"أنها هي من تحمي الحشد وتدعمه، على الرغم من تورطه في جرائم ضد السنّة". باختصار، يبدو أن هاجس هذه المنابر ومن خلفها اعتبار "الحشد الشعبي" جسماً إرهابياً مماثلاً لتنظيم داعش.
لكن ما الذي شهدته المدينة عملياً الأسبوع الماضي؟
هاجس وسائل إعلام الخليج اعتبار «الحشد الشعبي» جسماً إرهابياً مماثلاً لتنظيم «داعش»

تفيد المعطيات الواردة من هناك بأن مسلحين كانوا يتنكرون بأزياء سوداء عمدوا إلى إضرام النيران في سبعة مساجد على الأقل، وأحرقوا أيضاً عدداً من المحال التجارية وقتلوا نحو عشرة أشخاص، إما بإطلاق النار عليهم داخل منازلهم أو بإعدامهم في الشوارع. جاء ذلك بعد يوم واحد فقط من تفجيرين انتحاريين استهدفا مقهى شعبياً وسط المدينة، وأديا إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى، وقد تبنّاهما تنظيم "داعش". تطورات بادر رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي على إثرها إلى زيارة محافظة ديالى والاجتماع بالقادة الأمنيين في مقر قيادة عمليات دجلة. ثم كرر العبادي الزيارة يوم الثلاثاء عقب الدفع بتعزيزات عسكرية إلى المقدادية، وكان لافتاً تصريحه عن أن لـ"داعش" "أذناباً يسارعون إلى استهداف المساجد بعد كل تفجير لإذكاء الفتنة". وشدّد العبادي على "أن ثمة من يريد إرجاعنا إلى مربع الطائفية"، مؤكداً أن "هؤلاء لن ينجحوا".
تصريحات رئيس الوزراء سبقتها مواقف للمتحدث الرسمي باسم هيئة "الحشد الشعبي" أحمد الأسدي، رأى فيها أن أحداث المقدادية ليست بدافع طائفي "لكون من يدير العملية كلها ويحرك الأحجار منظومة إقليمية دولية داخلية تستهدف زعزعة الوضع الداخلي". ما لمّح إليه الأسدي تبدّى كذلك في تصريحات سياسيين وبرلمانيين رأوا أن "ثمة من يحاول خلط الأوراق والتشويش على المشاريع الوطنية المعززة للوحدة من خلال التصعيد في ملف ديالى"، فيما أشار آخرون إلى أن "البعض يستغل انشغال الدولة بالمعركة ضد داعش لتنفيذ أجندة مرعبة عمادها التحريض الطائفي وإثارة الفتنة التي ستقود البلاد إلى حرب مدمرة".
محلياً، أدان قائمقام المقدادية زيد العزاوي محاولة بعض القوى السياسية تدويل الأحداث الأخيرة في القضاء، واصفاً دعواتهم بالقرار الخاطئ، ومطالباً من سمّاهم "ساسة الفنادق" بالصمت، "لأنهم جزء رئيسي من نكبة المقدادية في حزيران 2014". ولفت العزاوي إلى أن "المدينة مرت بفتنة عمياء قبل أيام وانتهى الأمر"، مضيفاً "أن جميع الأطياف من السنّة والشيعة يريدون العيش معاً". ورأى أمين سر مجلس محافظة ديالى خضر العبيدي من جانبه أن تنظيم "داعش" يسعى في تسعير الفتنة بعد تكبّده خسائر كبيرة في محافظة الأنبار، فيما حمّلت آمال عمران، عضو مجلس المحافظة، المسؤولية عن أحداث المقدادية لمتسللين يتطلعون إلى تشويه صورة "الحشد الشعبي".
اجتهدت المرجعية في امتصاص الأزمة وحاولت التعامل مع مفرزاتها بدرجة من الوعي والحذر

من كل ما فُنِّد آنفاً، يتضح أن ثمة احتمالات ثلاثة حصراً لما شهدته المقدادية: إما أن مسلحي "داعش" هم من نفذوا الاعتداءات في مسعى منهم للإيقاع بين أهالي المحافظة المتعددي المذاهب، ولا سيما أن التنظيم لا يزال يمتلك حواضن في بعض مناطق ديالى، بحسب محافظ المحافظة مثنى التميمي. وإما أن فئات معادية "للحشد الشعبي" هي التي أقدمت على تفجير المساجد للإيحاء بأن "الميليشيات الشيعية" تنتقم من السنّة. وإما أن فصائل بعينها غير مرتبطة بالحشد هيكلياً أو تنظيمياً أو حتى اسمياً ارتكبت انتهاكات المقدادية، في حادثة قد يشهدها مطلق بلد يعاني انقسامات وتفرّخ فيه تشكيلات تعتاش على الأزمات. في كل الأحوال، يبدو واضحاً أن القوى المتهمة "بالتغطية على المعتدين"، خصوصاً منها المرجعية، اجتهدت في امتصاص الأزمة وحاولت التعامل مع مفرزاتها بدرجة من الوعي والحذر، إلا أن تطورات الساعات الأخيرة ولدت انطباعاً بأن ثمة قراراً لدى بعض الأطراف بالتصعيد، وهو قرار قد لا يكون معزولاً عن مجمل التطورات الإقليمية المحيطة بالعراق.
"اتحاد القوى العراقية"، وهو أكبر الكتل السنية في البرلمان، أعلن يوم الثلاثاء مقاطعته جلستي الحكومة والبرلمان، احتجاجاً على أحداث المقدادية. وعلى الرغم من أن ممثلي الاتحاد عقدوا مساء الاثنين اجتماعاً مع ممثل الأمم المتحدة الذي نقل إليهم تطمينات العبادي وزعيم "منظمة بدر" هادي العامري بملاحقة الجناة، إلا أن "تحالف القوى العراقية" أعلن مضيّه في "اتباع الطرق الدستورية لطلب الحماية الدولية لمحافظة ديالى". الطلب عينه كانت قد عبّرت عنه ما تسمى لجنة التنسيق العليا المعنية بأمور المحافظات السنية، حيث هدّدت اللجنة باللجوء إلى الأمم المتحدة لتأمين الحماية الدولية "للمناطق السنية"، محمّلة "ميليشيات الحشد الشعبي مسؤولية أعمال القتل والتهجير والتطهير الطائفي في ديالى".
أما طارق الهاشمي، نائب الرئيس الأسبق المطلوب للقضاء العراقي والمحكوم بالإعدام بتهمة دعم أعمال إرهابية، فقد دعا الدول الخليجية، وفي مقدمها السعودية، إلى نصرة أهل السنّة في العراق، معتبراً أن "المقدادية تتعرض لتطهير عرقي فيما إخوان لكم محاصرون تحت النار في الفلوجة". واتهم الهاشمي إيران "بأنها تقود حملة لإحداث تغيير ديمغرافي في المحافظة الملاصقة لحدودها وتفريغها من العرب السنّة لأسباب جيوسياسية لم تعد خافية على أحد".
في خضمّ ذلك كله، برز تصريح غريب للسفير السعودي في العراق، ثامر السبهان، إذ قال إن بلاده "تريد إعادة العراقيين إلى وضعهم الطبيعي". تصريح يطرح الكثير من علامات الاستفهام بشأن النيات السعودية حيال العراق، ويفتح الباب على سيناريوات متعددة، ليس أكبرها إعادة إحياء الفتنة التي أضرمها تفجير مرقد العسكريين في بلاد الرافدين عام 2006 بالاعتماد على قوى محلية توكل إليها مهمة التضخيم والاستثمار في الدماء وتزخيم الفرقة.