سيكون من الصعب على غير مجانين السلطة السابقة انتقاد خطاب رئيس الحكومة حسان دياب. من نكد الدهر أن يخرج سعد الحريري وكل أركان تيار المستقبل مثلاً ليعطوا الدروس لدياب وفريقه الوزاري. وهم الذين لم يعملوا لأكثر من 4 ساعات في اليوم الواحد. وما فكّروا يوماً بأي نوع من الإصلاحات. وكل ما يقومون به اليوم هو اللجوء الى عدّاد الدين العام، ليحسبوا ما زاد خلال السنوات الـ 15 الأخيرة من خارج مسؤوليّتهم. والنكتة الأكثر رواجاً، اعتبار الإنفاق على قطاع الكهرباء من مسؤوليّة ميشال عون وفريقه لكونه كان يتسلّم وزارة الطاقة. أما وليد جنبلاط وسمير جعجع وآل الجميل وكل الإرث السمج لفريق 14 آذار، وملحقاته من بنى انتفاضة 17 تشرين، فلن تصلح أي انتقادات من جانبهم حتى لبرنامج مملّ على الشاشات الباردة في بيروت. بينما سيكون من الوقاحة على فئة الـ 5 بالمئة من مكدّسي الثروات والأرباح توجيه النصائح لأحد. فكيف إذا كان رمزهم في الحكم اليوم هو رياض سلامة ومندوبه في جمعية المصارف هو سليم صفير، والأخير كاد يبكي في اجتماع بعبدا قبل يومين من شدة الفقر، حتى كاد أحد ضبّاط القصر يجمع له مبلغاً من المال ليعطيه إياه عند مغادرته مصاباً باكتئاب يضاف الى ما يعانيه بسبب الغضب الأميركي عليه.
(هيثم الموسوي)

قيمة خطاب دياب ليست في مضمونه الواضح، بل في كونه نتاج عمل مجموعة ليست منفصلة عن الوقائع السياسية وغير السياسية في لبنان. لكنها ليست متصلة ــــ تماماً ــــ بآليات العمل التقليدية التي يعرفها الناس منذ توقف الحرب الأهلية، ووصول المنقذ الأبدي رفيق الحريري الى السلطة. وهذه المجموعة تعرف أن رصيدها محصور في قدرتها على «نكش» القائم، ولو كانت النتيجة الأولى انتشار رائحة العفن من المكان. لكنها عملية جعلت كثيرين في لبنان والخارج يتعرفون لأوّل مرة إلى حقيقة الوضع. تخيّلوا أن مسؤولاً فرنسياً بارزاً وناشطاً في الملف الاقتصادي والمالي، قال إنه تعرّف أخيراً إلى تفاصيل تجعله يصف رياض سلامة بـ«الكاذب الذي كنا نفترض أن يقول في الإعلام كلاماً هدفه إشاعة مناخات إيجابية، لكن تبيّن أنه يكذب أمام أركان الدولة، وأمام ممثلي الشركات الاستشارية المستقدمة لمساعدة لبنان على مواجهة أزمة الدين، وأنه يكذب على رئيس الحكومة الذي يحتاج إلى كل الحقيقة حتى يعرف تحديد طريقه في المعالجة». ومع ذلك، فإن سلامة كما سليم صفير ومجموعة من مارقي المصارف اللبنانية، لا يزالون يلجأون الى العدّة القديمة من شراء الذمم عند سياسيين وإعلاميين لأجل تلميع صورتهم، كأنهم يعيشون في عالم آخر، أو قل كأنهم لم يستفيقوا بعد.
ما أعلنه رئيس الحكومة جيّد جداً لكونه المسؤول الأول الذي يجرؤ على توصيف الواقع من دون أيّ تزيين. ولكونه المسؤول الأول في لبنان، الذي يطلّ على الناس منذ توقف الحرب الأهلية، ويضعهم أمام المرآة ليروا الحقيقة. حقيقة الواقع الذي نحن فيه الآن، وحقيقة أن الّذين صوّتوا لهم ولحقوا بهم وطوّبوهم قادة ومسؤولين على مدى ثلاثة عقود، قد أوصلوهم الى ما هم عليه اليوم. وإذا كان البعض يريد من دياب أن يضع مواد التجميل على صورة القبح، فهو هذا البعض الذي يصرّ على فكرة شراء الوقت. وكأن الإنقاذ في طريقه الى لبنان. هؤلاء الذين يواصلون الإنكار بأن عملية شراء الوقت كلّفت اللبنانيّين نحو 130 مليار دولار أميركي على الأقل، وهي خسارة غير قابلة للتعويض مهما قال الكذّابون وأجادوا.
لكن الخطوة التالية هي الأهم. وهنا، لا يبقى الأمر من مسؤولية حسان دياب وفريقه حصراً، بل هي أيضاً مسؤولية قوى سياسية يفترض أنها تشكل الحاضنة السياسية لحكومته. ومع قليل من التدقيق، سيكون واضحاً أنها المسؤولية الملقاة اليوم على عاتق الرئيس ميشال عون والتيار الوطني الحر والرئيس نبيه بري وحركة أمل والسيد حسن نصر الله وحزب الله. وحقيقة الأمر أن دياب وفريقه الوزاري يحتاجون إلى دعم هؤلاء بقوة، وكل ساعة وكل دقيقة. والدعم ليس لتغطية المواقف أو القرارات فحسب، بل للمساعدة على إزالة عقبات كبيرة قد تحول دون دخول مرحلة العلاجات على قساوتها. وبحسب ما هو معروف، ولو في دوائر مغلقة، فإن هذه القوى الثلاث لا تزال تتصرّف بحذر شديد مع دياب وفريقه الوزاري. تارة بسبب الخشية من نقص في المعطيات أو الخبرة، وطوراً بسبب الحسابات السياسية، أو بسبب السعي الى حماية مكاسب تخص هذه القوى داخل مؤسسات السلطة. لكن ما يفترض أن يكون قد ورد الى هذه القوى أو «اعترضه وسيط على الطريق»، فهو واضح:
أولاً: إن الحكومة بحاجة الى مساعدة كبيرة لمعالجة ملف الإدارة الرسمية للسياسات المالية والنقدية. وهذا يتطلب إحداث تغيير كبير على صعيد الفريق المسؤول عن هذه السياسات. وإذا كان متعذراً إقناع رياض سلامة بالاستقالة فوراً، أو كان من غير الممكن إقالته، فإن إلزامه بتغيير جوهري يتطلب ليس سؤاله، بل إلزامه، وهذا يعني ببساطة اختيار فريق جديد كلياً في مناصب نواب الحاكم ولجنة الرقابة على المصارف ومفوض الحكومة وهيئة الأسواق المالية والقضاء المالي. والمسألة هنا لا تتعلق بأشخاص الفريق، بل في أن لا يكون أي منهم على صلة بهذا النادي الذي قاده سلامة في كل مواقع الدولة منذ وصوله الى منصبه. وهذا يعني أن على عون وبري قبل حزب الله التخلي عن كل الميول التقليدية إزاء السعي لإمرار من يعتقدون أنهم الأنسب، وأن يصار الى وضع آلية تفرض على الحكومة الإتيان بالأفضل والأنسب. لا أن يصار الى إمرار ترشيحات تشبه ما هو قائم اليوم (وصل الأمر إلى حدّ ترشيح شخصية لتولي منصب نائب الحاكم، سبق لها أن تورطت في ملف القروض المدعومة). وهذه المهمة قد تفرض مراجعة عاجلة حتى لاختيارات وزارية. ولا بأس هنا من مصارحة رئيس المجلس النيابي حول سلوك وزير المال غازي وزني، الذي لم يعرض فكرة واحدة تقول إنه يسير في خطة فريقه السياسي، إلا إذا كان الفريق السياسي يناور بالمواقف.
ثانياً: إن الحكومة بحاجة الى قرارات غير مسبوقة على صعيد ضبط الإنفاق العام وضبط أداء القطاع العام. وهذا يستلزم الشروع فوراً في إلغاء أي وجود لمؤسسات وهيئات ومناصب ووظائف ومقارّ ونفقات ليس لها عنوان سوى الزبائنية المتوارثة. وهذا أمر سيكون له تأثيره المباشر على سياسات هذه القوى وغيرها من القوى التي تقف اليوم خارج السلطة. لكنها إجراءات ضرورية وإلزامية. وربما يكون الوقت قد حان لاستعادة الوزارات ليس كامل صلاحياتها فحسب، بل أيضاً كامل أجهزتها التنفيذية، بدل استمرار عمل الوزارات الموازية القائمة اليوم على شكل مجالس وصناديق وهيئات.
برامج الحكومة تفرض تغييرات إداريّة تحاصر «حزب المصرف» وتقفل دكاكين الهدر وتضبط القوى الأمنية


ثالثاً: إن الحكومة مقبلة حتماً على إصدار قرارات أو إعداد مشاريع قوانين تصيب القطاع المالي والنقدي بصورة مباشرة. وسيكون اللبنانيون قريباً أمام قوانين واضحة تخصّ إعادة هيكلة الدين، مع ما يتطلّب ذلك من عملية شطب لنسبة غير قليلة من الدين. وهي عملية ستواجه بأعنف حملة من حزب الـ 5 بالمئة المنتشر في كل جسم البلاد. لأن هذه القوانين ستزيل الشحم والورم من الجسم المالي والنقدي في لبنان، إذ لا وجود لـ 155 مليار دولار ودائع، بل يوجد ما هو أقل بكثير إذا تمّت إزالة الأرباح الخيالية. ولا وجود لثروة عقارية بمليارات الدولارات عند المصارف وعند المطورين العقاريين. بل ثمة ثروة عقارية متواضعة لا بد أن تعود الى حجمها المالي الحقيقي. ولا يمكن ترك اللبنانيين من دون نظام ضريبي مختلف عمّا هو قائم اليوم. والجباية متى تمّت وفق القانون فسنكتشف كم جرى التهرب منها على مدى العقود الماضية. والحكومة معنية بسياسات تمنع اللبنانيين عن نظام الاستهلاك العشوائي الذي يندرج في خانة «التشاوف والمفاخرة» والتي لا تتصل بحقيقة دخل الناس وحجم أعمالهم. وهذا سيؤدي حتماً الى تعديل جوهري في سياسة الاستيراد، الذي ستتقلّص سلّته الى النصف كحد أدنى، ما يعني أن الناس عليهم التوجّه غصباً لا طوعاً صوب بدائل محلية.
رابعاً: إن العلاجات للمديونية العامة والنفقات ستطرح هذه المرة الأسئلة المباشرة حول كلفة القوى العسكرية والأمنية في البلاد. من العديد ومطابقته لحاجات البلاد، الى نوع البدلات المخصصة لكبار الضباط والقادة، الى المصاريف السرية التي تذهب لشراء ذمم سياسيين وإعلاميين ومخبرين لا علاقة لهم بأمن البلاد، وصولاً الى موازنات النفقات التشغيلية من كلفة الطعام الى كلفة المحروقات الى بدلات السفر والمهمات الخارجية. وهذا بحد ذاته يتطلّب علاجاً يقوم أساساً على اقتناع الفريق العامل في هذه المؤسسات بأن البقاء على ما كنا عليه لم يعد ممكناً تحت أي ظرف، وأنهم مثل بقية الناس، سيساهمون في تحمّل الخسارة، ويجب أن يتم الأمر من دون أي محاولة لابتزاز السلطة أو الناس بأمنهم اليومي.
ما أعلنه حسان دياب في خطابه ليس إلا العنوان. ومتى قرر الرجل المضيّ في برنامج عمل تنفيذي، فهذا يعني أننا سنقبل على مواجهات أشد قساوة. ومن الضروري هنا، وحتى لا يتكرر الحديث عن التشكيك لاحقاً، أن هناك قوى محلية، وجهات خارجية، تسعى منذ أسبوعين على الأقل، الى العودة إلى تحريك الشارع بطريقة فوضوية تامة، فيها الكثير من المخاطر وفيها الكثير من التوترات التي قد تخلق نزاعات وصدامات... وهذه المرة، يفترض بمن يعتقدون أنهم يؤثّرون في حركة الشارع تحمّل المسؤولية، لأن الفوضى متى تمكّنت سوف تزيلهم قبل غيرهم من الواجهة... ولمن لا يريد الاقتناع، علّه يراجع أرشيفاً لا يزال حاراً موجوداً تحت عنوان: الربيع العربي، كيف انطلق وإلى أين انتهى!