منذ أن سقط مالكوم إكس مضرّجاً بدمائه في صالة «أودوبون» للاحتفالات في نيويورك قبل 55 عاماً (21 شباط/ فبراير 1965) والجميع يعرف من قتله. كان ذلك أشبه بسرّ علني. ليس فقط أولئك الأوغاد الخمسة من تنظيم «أمّة الإسلام» الذين أطلقوا النار ثم استمر أربعة منهم في العيش في حيّهم كأنّ شيئاً لم يكن، بل أيضاً القتلة الحقيقيين في الدولة الأميركيّة العميقة التي تدير الولايات المتحدة لحماية مصالح القلّة، طبقة النخبة المُهيمنة.أطراف تحالف الظلام الأميركي وبكلّ صلف الطبقة الحاكمة المعهود، قرّرت أن الدرس للثوريين الأميركيين ــــ ولكل أميركي تسوّل له نفسه التجرؤ على الإمبراطوريّة ــــ بتصفية القائد المغدور لم يكن كافياً. فلن نكتفي بالقتل علناً، بل لن نسمح حتى بمسّ القتلة الصغار الذين نفّذوا. وهكذا شارك المجتمع الأميركي برمته في دفن مالكوم إكس وراء الحياة والتاريخ معاً: خانه مجتمعه الأسود نفسه، وشرطة نيويورك، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، ووزارة العدل الأميركيّة، وصمتت الطبقة العاملة البيضاء عن جهل مؤسس أو عن عنصريّة متوارثة، فيما استقالت الصحافة الأميركيّة ـــ صحافة النخبة المهيمنة ذاتها ـــ من أي دور في الكشف عن تلك المسرحيّة السمجة. هكذا، دفعت الرأي العام لتصور حادث الاغتيال كما لو كان نتاج مشاحنة بين مجموعة قوادين سود متنافسين أمام أحد الملاهي الليلية، وصراعاً داخلياً أسود – أسود لا شأن لأميركا به. استمرت السلطات الأميركية المتعاقبة ـــ بما فيها جمهورية باراك أوباما الأبيض الذي يرتدي قناعاً أسود ــــ في التغطية على الجريمة عبر العقود رغم أنّ أحد القتلة أدلى لاحقاً باعترافات كاملة تحت القسم حدّد فيها أسماء الأربعة الآخرين، ورغم محاولة قانونيّة مجهضة قام بها محام معروف لإعادة فتح القضية رفضتها المحكمة بصلف، كما عدة كتب وثّقت أجواء المؤامرة على مالكوم إكس بما فيها نص جديد كتبه أنتوني بوزا أحد المحققين الرسميين في القضيّة (2011) قال فيه بوضوح بأن التحقيق الرسمي كان مهزلة تامة.
وثائقي نتفليكس الجديد «من قتل مالكوم إكس؟» (2020 ــ ست حلقات من إخراج راشيل دريتزين وفيل بيرتلسن) يستعيد تلك الحادثة في ذكراها الـ 55، وينقّب في تفاصيل تقنيّة حول الثقوب الكثيرة في ذلك التحقيق/ المسرحيّة، ويعيد ـــ مستنداً إلى وثائق وشهادات لمن بقي على قيد الحياة من جمهور الحادثة ــــ رسم الأجواء التي سبقت الجريمة، وتلك التي تلتها. يتولى تقديم الوثائقي أفروأميركي أسود اسمه عبد الرحمن محمّد يعمل مرشداً سياحياً في نيويورك، لكنه أمضى آخر ثلاثين سنة يبحث وينقّب في حقيقة مقتل مالكولم إكس، الحادثة التي صدمته في شبابه. وهو كان قد مرّر ما لديه من معلومات للبروفيسور مانيينغ ماربل، أستاذ العلوم السياسيّة وتاريخ الأفارقة الأميركيين في «جامعة كولومبيا». أشار الأخير إلى بعضها في سيرته للقائد الراحل – الأفضل والأشمل «مالكوم إكس: حياة من التجدد» (2009). لكن يبدو أنّ الوثائقي نجح في ما عجز عنه الكتاب، بحكم محدوديّة عدد القرّاء الجادين مقارنة بجمهور الصورة الهائل، إذ قرر مكتب المدعي العام لمانهاتن في نيويورك، إثر تفجّر النقاش العام حول الجريمة في الصحف وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، إعادة النظر في القضيّة في ضوء المعلومات التي يطرحها «من قتل مالكوم إكس؟». ومع أن ذلك لا يعني بالضرورة إعادة فتح التحقيق الرسمي، إلا أنّه يعكس قلق السّلطات من إمكان منح الأقليّة السوداء الأميركية سلاحاً جديداً تحاجج به تجاه السياسات العنصريّة المستمرة التي ما زالت تحكم تعامل الإمبراطوريّة مع رعاياها ذوي البشرة غير البيضاء رغم كل الثرثرات الفارغة بعكس ذلك. وربما هي ستجري تحقيقاً شكلياً جديداً لمحاكمة أشخاص صاروا في العالم الآخر وإدانة بعض البيادق التافهة هنا أو هناك.
على نحو ما، فإن «من قتل مالكولم إكس؟» ينحو في هذا الاتجاه، وتلك هي خطورة الوثائقيّات التي تعرضها المؤسسة الإعلاميّة الأميركيّة بما فيها نتفليكس المتخصّصة في تقديم سرديّات إمبراطوريّة النفس عن الأحداث والشخصيّات التاريخيّة (من بابلو إسكوبار إلى فيديل كاسترو قريباً) على نسق يؤكد دوماً وحصراً رواية السيّد الأبيض، ويلغي التاريخ الحقيقي المتناثر في كتب ووثائق لا تصل إليها إلا قلّة متخصصة. بغير التطويل الزائد حد الملل أحياناً، والتركيز على بطولة الحملة (الجهادية) للبحث عن الحقيقة التي قام بها المقدّم، فإن وثائقي نتفليكس يستمر في التعمية على القتلة الحقيقيين الذين تآمروا لتغييب القائد – النجم لمصلحة تضخيم مسألة الأفراد الذين أطلقوا النار عليه بالفعل في وضح النهار. حتى تلك التلميحات إلى دور محتمل لمجموعة متطرفة داخل مجموعة الحرس القديم في تنظيم «أمّة الإسلام» في إصدار أمر القتل، أو لتقصير من طرف شرطة نيويورك في حماية مالكوم إكس، أو لعبثيّة التحقيق الرسمي الذي قام به مكتب التحقيقات الفيدرالي، تبدو أشبه بتركيز مكثف على أشجار قليلات، مع إهمال النّظر إلى الغابة الهائلة في الخلفيّة ــ وفق الكليشيه الأميركي المعروف ــــ، وتوجيه لغضب الجيل الجديد من الأميركيين السود نحو مرافئ آمنة لا تمسّ أسس المنظومة.
لكن لماذا كل هذا الخوف من شخص مالكوم إكس في حياته وبعد مماته؟ لا يدرك كثيرون سواء في أميركا نفسها أو عبر العالم، ولا سيّما الأجيال الجديدة، أهميّة هذه الشخصيّة الفريدة كقائد ورمز ثوريّ. كان قادراً ـــ ولا تزال ذكراه كذلك ــــ على إلهام المهمشين والفقراء والطبقة العاملة ومنحهم الثقة بالقدرة على تغيير الواقع القائم بين جماهير خضعت واعتاد معظمها على راحة الخضوع للسيّد الأبيض الأميركي ـــ ليس فقط بين الأفروأميركيين وهي بالمناسبة تسمية وضعها مالكوم إكس بدلاً من صفة «نيغرو» المحمّلة بالازدراء العنصري ــــ بل أيضاً تأسيس تضامن أممي بين الطبقة العاملة الأميركيّة والشعوب المسحوقة في دول الجنوب. أدواته كانت شخصيته الشاهقة، وحضوره الأخّاذ وقدرته الاستثنائيّة على التعلّم والتفكير والتحليل وإعادة اختراع الذات. لقد كان أفصح خطيب أميركي في القرن العشرين بما لا يقارن، وأقدرهم على وضع النقاط على الحروف، ومواجهة التنانين والوحوش بلا هوادة.
مالكوم إكس كان كما نبيّ جديد. وللمجموعة الأفرو-أميركيّة، جمع كل نماذج القيادة الشعبيّة في المخيال العام للأقليّة في رجل واحد. شخصيّة البطل الشعبي للمراهقين السود: نموذج الشقيّ القاسي القلب مجرم الشوارع الخلفيّة ومروّج مخدرات ولص صغير ونزيل السجون في أول شبابه، ثم نموذج الشخصية القويّة التي تنتصر على السجن والسجّان وتنهض من جديد (قضى سنوات السجن يقرأ ليلاً ونهاراً بعدما تمكنت قريبة له سوداء برجوازيّة وباستخدام نفوذها الطبقي من نقله إلى سجن تجريبي كانت فيه مكتبة ضخمة)، ثم نموذج الداعية المبجّل النظيف اليّد والقلب واللسان، ثم نموذج الزعيم الثوري الذي يسحر القلوب، ثم نموذج النجم العالمي الذي تحتفي به جماهير أفريقيا والعالم ويستقبل استقبال الرؤساء حيثما حلّ (بمن فيهم القادة الثوريون في أفريقيا: الجزائر وغانا ومصر حيث استضافه عبد الناصر والثوار الأحرار)... وأخيراً المفكر القادر على كسر قيود الهويّات المتخيّلة لمصلحة أوسع تضامن طبقي في مواجهة شراسة المنظومة الرأسماليّة ومصالح النخبة. كان قد قال في آخر مقابلة صحافيّة له قبل شهر من اغتياله: «قضيت معظم حياتي أعتقد أن الصراع الأساس هو بين البيض والسود. لكنني وصلت الآن إلى قناعة تامّة بأنّ الصراع الحقيقي هو بين قلّة تمتلك كل شيء وكثرة لا تمتلك شيئاً».
حاول كثيرون الإيقاع بينه وبين مارتن لوثر كينغ – الزعيم الأسود الذي كان يدعو لتحرير الأفروأميركيين من داخل النظام وبالوسائل السلميّة من خلال تصوير مالكوم إكس معادياً للنظام. لكنه بكل التواضع النبيل، أرسل إلى كينغ رسالة وديّة عبر زوجته قال لها فيها أن أبلغي الزعيم بأننا في خندق واحد، وأننا نرفع سقف المواجهة كي نمنحه مزيداً من أوراق القوّة ليفاوض أفضل من داخل النظام لأجل تحسين ظروف عيش الأفروأميركيين. وبالفعل بدأت تنشأ تالياً أجواء تحالف غير معلن بين الطرفين، ربما أدت في النهاية إلى مقتلهما كليهما على يد النظام البشع ذاته.
ومع أنّه كان نجماً أوّل في تنظيم «أمة الإسلام» التي تعرّف شاباً غرّاً في السجن إلى أفكارها العنصريّة عن تفوّق الإنسان الأسود وأن الإنسان الأبيض ما هو إلا مخلوق شيطاني فقد لون السواد الجميل، بل فاق زعيمها أليجا محمّد في قدرته على استقطاب الأقلية الأفروأميركيّة للأفكار الجديدة وتنظيم الشبان، سواء في خطاباته أو في مقالاته لصحيفة «محمّد يتحدث» التي أسسها وكانت بمثابة الصوت الإعلامي المركزي للمجموعة، إلا أنّه كان شجاعاً في رفض الخنوع السياسيّ أمام عنف السلطات الذي أراده أليجا محمّد، وترك التنظيم نهائياً بعدما كشف عن أن أليجا محمد المتزوج والمتعدد الأبناء، كان يعاشر سكرتيراته الثلاث جنسياً ورفض الاعتراف بأبنائهن، ودعم موقف أولئك السكرتيرات في وجه بشاعة الطاعة العمياء التي مارسها أتباع أليجا عبر مهاجمته علناً وتهديده المتكرر بالقتل.
ورغم أنّه تجنّب العنف الثوري المباشر الذي انتهى إليه ماركسيو تنظيم «الفهود السود» بعدما يئسوا من قابلية النظام على التغيير، إلا أنّه كان يرى أن الثورة ممكنة فقط عندما تنهض الكتل الشعبيّة معاً لمواجهة قدرها بالقوّة، لا مجرد نخبة قليلة يمكن للنظام المدّجج بكل أدوات العنف الرسمي تصفيتها بسهولة (وهو ما حدث لاحقاً بالفعل، إذ قتل معظم قادة التنظيم وألقي بمن نجا منهم في السجون من دون الأمل بإطلاق السراح ومسحت صفحة التنظيم بالكامل).
كان قادراً على إلهام المهمّشين والفقراء والطبقة العاملة ومنحهم الثقة بالقدرة على تغيير الواقع القائم


مالكوم إكس ــــ وإكس عناية عن التجهيل معتبراً أن كل الأسماء التي حملها أجداده بعد اقتلاعهم من مواطنهم الأفريقيّة كانت تسميات أطلقها عليهم السيّد الأبيض ومستمدة من ثقافته العنصريّة البغيضة، وهو بذلك يفضّل أن يكون مجهولاً على أن يحمل كنية المُستعمر، فيما مالكوم لقب عائلة جدّته لأمه الإسكتلنديّة الأصل ـــ في ذلك كلّه، أصبح للدولة العميقة الأميركية كما قنبلة موقوتة تهدد بتفجير النظام برمته في أي وقت. لذا اتُّخذ القرار بتصفيته. وتذكر المصادر التاريخيّة أن السلطات في فرنسا منعت حضوره إلى باريس رغم جواز سفره الأميركي وجولته العالميّة عبر آسيا وأفريقيا وأوروبا، بعدما علمت المخابرات الفرنسيّة بأن الأميركيين قرروا التخلّص منه وخشيت أن تتم عمليّة الاغتيال على أراضيها، ما قد يفتح الباب أمام اضطرابات عرقيّة بين الأفارقة الفرنسيين لا قبل للسلطات بالتعامل مع نتائجها. ومن الواضح أن المخططين وجدوا في بلهاء «أمّة الإسلام» الذين اعتبروا مالكوم خائناً لزعيمهم، وسيلةً مثاليّةً للقضاء على التهديد المحتمل الذي يمثلّه القائد الكبير بأيد سوداء. وفروا لهم الغطاء، وسحبوا عنه الحماية الشكليّة رغم أنه كان قد تعرّض إلى محاولة اغتيال قبل أسبوع واحد من خلال إحراق منزله، وأن مكتب التحقيقات الفيدرالي كان يراقب عن كثب كل تحركاته ويعد عليه أنفاسه. ولمّا قام الأشقياء الخمسة بإطلاق النار عليه بكثافة بينما كان يهم بإلقاء محاضرته، رآهم 400 من الشهود وتعرفوا إليهم، لكن لم يُعتقل أيّ منهم سوى واحد قبض عليه الحاضرون المذهولون، وكادوا أن يقتلوه ضرباً قبل أن تخلصه الشرطة من أيديهم. ورغم اتصالات كثيرة بخدمات الطوارئ، فإن الرجل تُرك طويلاً لينزف من دون حضور أيّ سيارة إسعاف لنقله، إلى أن ركض بعض رفاقه نحو مستشفى قريب أحضروا منه نقالة وعادوا لحمله مشياً إلى الأطباء، الذين ما لبثوا أن أعلنوا وفاته. بلغ الإهمال المتعمد للسلطات درجة الطلب إلى أصحاب القاعة التي قُتل فيها الرجل تنظيفها والاستمرار في برنامجهم لإقامة حفل ساهر في المكان نفسه تلك الليلة، حيث كانت آثار زخات الرصاص ما زالت مرئية أمام الراقصين. وقد قبضت السلطات لاحقاً على اثنين من ألافروأميركيين السود الفقراء ممن كانوا في فضاء «أمّة الإسلام» وعرفوا القائد المغدور، وألصقت بهما تهمة المشاركة في عمليّة الاغتيال رغم تعدّد الشهود الذين قالوا بأنهم شاهدوهما رأي العين في أماكن أخرى بعيدة تماماً لحظة حدوث الجريمة، ورغم أن القاتل الوحيد الذي ألقي القبض عليه من بين عصابة الأشقياء أعلن لاحقاً أن هذين المسكينين لم تكن لهما علاقة بما حدث، واعترف بأسماء شركائه المنفذين الآخرين الذين لم تكلّف السلطات نفسها حتى عناء استدعائهم للمساءلة وعاشوا في مجتمعهم (في منطقة نيوجرسي) غير متخفين كأنّ شيئاً لم يكن، بمن فيهم الرجل الذي أطلق الرصاصة التي قال الطبيب الشرعي بأنها تسببت بالوفاة... إلى درجة أنه ظهر في دعاية انتخابيّة تلفزيونيّة (2010) لأحد المرشحين لمنصب عمدة المدينة! وقد توفي جميع هؤلاء لاحقاً، كما أحد المتهمين البريئين فيما بقي الآخر (81 عاماً مصراً على براءته إلى اليوم)، وهو يخوض اليوم معركة أخيرة لإزالة عار السلطات الأميركية عن اسمه.
مالكوم إكس الشهيد المظلوم، لن يحظى بالعدالة قطعاً من يد النظام الأميركي القاتل. عدالته وراحة روحه الأبديّة ستتحققان تحديداً بالسقوط الكليّ والنهائيّ لهذا النظام. وهو أمر لا محالة آت. أتذكرون الإمبراطوريّة الرومانيّة الأعظم؟ تلك هي الأخرى اندثرت، وكل الذي بقي منها ذكريات مبهمة، بينما لا ننسى القائد سبارتكوس إلى اليوم.