منذ أول من أمس، أتابع الزوبعة التي أثارها فيلم محمد بكري «يرموك» (الأخبار 11/3/2014) وأرى صورة لمأساة أكبر من فيلم قصير وأشدّ خطراً لأنّها نقطة ضعف قاتلة يستغلها العدو بنجاح منقطع النظير. إنّها مأساة أنّنا أمة رد فعل لا فعل. لو توقف الناس وفكروا في طبيعة علاقة دولة كالسعودية بالعرب والعروبة والاسلام، هل كان بوسعها حينها استغلال الرسوم الدانماركية لتحريك المسلمين في العالم ليدمروا باسم إسلام لا علاقة للسعودية به؟
لو فكر الثائر السوري الحقيقي كيف يمكن للحرية أن تأتي من قطر والأردن والسعودية، تلك الحرية التي تجتمع مع جون ماكين وتتلقى العلاج في مستشفيات «اسرائيل» ويزورها نتنياهو مطمئناً حاملاً لها هدية على شكل شريط حدودي لَحدي لكن بالسوري... هل كان ذلك الثائر ليحمل سلاحاً ويقتل أخاه؟ لكن هناك من يشحن النفوس لأسباب بعيدة عن الأهداف المزعومة. وطبقة المثقفين غير بعيدة عن المصالح الشخصية وتصفية الحسابات والتعبئة. إذا زدنا على ذلك العجز عن القراءة العميقة والاكتفاء بالسطحية، نحصل على مقالة نصري حجاج عن فيلم «يرموك». طبعاً، لا غرابة في قراءة حجاج السطحية لـ «يرموك» لأنّنا شاهدنا قراءته لشعر محمود درويش في فيلمه «كما قال الشاعر». في الحالتين، نرى قراءة حرفية أبعد ما تكون عن الشعر. «يرموك» ليس قصيدة، لكن كأي عمل فني، من الظلم النظر اليه حرفياً لأنّ ذلك يحوّله بياناً سياسياً. مشكلة حجاج هي مقارباته للأمور كأنها بيان سياسي صادر عن مكتب أحد التنظيمات. لماذا قَرأ الفيلم كأنه فعلاً عن مخيم اليرموك؟ بل هو يسأل عن «ال التعريف» في عنوان الفيلم! من يقرأ ما كتب عن «يرموك»، يجد أنّ مهاجمي الفيلم هم من مثقّفي أوسلو وراكبي الموجة التي سرقت الانتفاضة الشعبية، وحولّتها حرباً أهلية وكابوساً وهابياً. أحد الكتاب لام مخرج «يرموك» لأنّه لم يصوّر الصواريخ تتساقط على اليرموك. البعض حوّله فيلماً عن مخيم اليرموك بدلاً من أن يرى في التسمية رمزاً لكل ما لحق بالناس، كل الناس، من ظلم وجور وأذى. عندها، لا يعود لأل التعريف لزوم. معلومات بكري عن الاوضاع في سوريا تأتي مما ينقله الاعلام. وهو ليس بوارد تقديم عمل سياسي حول ما يجري. هو يقرأ عن المعاناة الانسانية في الحرب السورية، وهي كأي حرب تؤذي الانسان البسيط لا متزعمي تلك الحروب في أي صف كانوا.
المخرج جمع أكثر من قصة من قصص تلك الحرب في فيلم قصير واحد. هناك قصة الحصار وقصة الجوع وقصة الخوف وقصة استغلال تلك الظروف من قبل وحوش لا تعرف الرحمة. القصة ليست قصة فلسطيني أو سوري أو خليجي. هي قصة كل انسان وجد نفسه كفرد في خضم صراع قوى أكبر منه. يستحق الفيلم اسم «يرموك» لأنّ اليرموك كأي مخيم صار رمزاً للموت الرخيص والوقوع بين فئتين تختلفان على كل شيء الا على استباحة الدم الفلسطيني. منذ فترة، صدر تقرير للامم المتحدة يشير إلى أنّ أكثر من عانى في الحرب السورية هم الفلسطينيون. غريب كيف أنّه كلما تذابح العرب، يجمعون على أن يكون الخاسر الأكبر هو الفلسطيني. مشاهد أطفال اليرموك التي لم نر مثلها منذ مشاهد ضحايا النازية في الحرب العالمية، لم تحرك لا موالاة ولا معارضة. لماذا؟ لأنهم فلسطينيون. عن هذا يحكي «يرموك». من يحرك عقله قليلاً، يدرك أنّ الفيلم ليس عن اليرموك، بل هو عن كل مكان وجد أهل سوريا أنفسهم فيه في دنيا العرب. مَن قرأ أحد مقالات الزميلة ضحى شمس عن معاناة السوريات وهن ضيفات عند حماة الثورة السورية في شمال لبنان، ومثلها في الأردن، ومصر حيث تباع النساء بيعاً باسم عقد زواج. تلك أيضاً «يرموك». اليرموك كعين الحلوة ونهر البارد وصبرا وشاتيلا، ليس مخيماً فقط، بل رمز لضحايا وحشية بني البشر، سواء أكانت ذات طبع جنسي أو اقتصادي أو عنصري أو عسكري.
من يقرأ ما حصل مع لاجئات سوريا في دنيا العرب، يخجل بنفسه وبالجنس البشري كله. عن ذلك يتحدث «يرموك». وهذا ما قاله المشهد الأخير من الفيلم. ذلك المجتمع الذكوري الذي لا يرى الدنيا الا من فرج امرأة. مجتمع من حيوانات يتعامل مع كل شيء كحيوانات. هذا هو «يرموك». كل شيخ أعطى فتوى حلل فيها النخاسة هو «يرموك». كل من ساوم امرأة على جسدها مقابل كسرة خبز هو «يرموك». كل الحصار والموت قتلاً وجوعاً في مخيم اليرموك فيما العالم يتفرج هو «يرموك». هذا ما يقوله فيلم «يرموك» قبل أن تتلهى بالمعنى الحرفي واين ضاعت «ال التعريف». الفيلم مهدى للأمة العربية لأنّ كل أرض العرب «يرموك». جيوش أميركا في العراق هي «يرموك»، تقسيم السودان هو «يرموك». إثيوبيا تقطع ماء النيل عن مصر هو «يرموك»، حرب ٢٠٠٦ على لبنان وقتل أطفال قانا فيما ساسة لبنان يتغدّون مع كوندليزا رايس هو «يرموك». أرضنا المستباحة من المحيط الى الخليج فيما جيش يدخل وجيش يخرج هي «يرموك». قضايا تباع وتُشرى ومدينة كالقدس تغيب أمام أعيننا بيتاً بيتاً هي «يرموك».
قد يكون الفيلم رد فعل عاطفي على نواحٍ من الحرب السورية، لكن هذا كل ما يحتمله من نقد. المؤسف أنّه لا شيء تغيّر في بلادنا. طبقة المثقفين يغتال بعضها بعضا بأقلام كاتمة للصوت، والناس العاديون يلجأون إلى السباب. و«الأجمل» هو تلك الفئة التي تحارب لأجل الحرية والديموقراطية والتعبير عن الرأي، طالما أنّ رأيك يتطابق مع رأيها. العام الماضي، كتب محمد بكري على فايسبوك: «قلبي ع سوريا، في سوريا، من سوريا، لللي فاهم واللي مش فاهم، واللي ولا بده يفهم». وكتب أيضاً عن ابن سينا «بلينا بقوم يظنون أن الله لم يهد سواهم». لعله ككل فنان حقيقي، حدس بما سيحصل معه. قصة الفيلم وما جرى معه على يد من يدّعون حب سوريا وفلسطين والحرية هي أيضاً «يرموك».
* كاتب فلسطيني مقيم في نيويورك