في مجتمعاتنا المتخلّفة، تبرز طبقة متنفّذة على شاكلة السياسيين والنخب وكل ما طاب لكم من بضاعة هذا البلد. يفقد الجميع توازنه أمام حشد من مئات الأشخاص على شاشة حاسوب، فكيف إذا كانت الحشود تقف على باب منزله أو في ساحة يقف فيه هذا النافش ريشه خطيباً مفوّهاً!.في مجتمعاتنا هذه، حيث يسعى الجميع إلى منصب ونفوذ وسلطة وزعامة وما شابه، يفقد المجتمع توازنه عندما تكون العصبية أساس الجمع، عصبية طائفية أو مذهبية أو مناطقية أو ما يعادلها.
في مجتمعاتنا المتخلّفة هذه، ينفرط عقد الدولة أمام تشكيلات المجتمعات البديلة، من مجتمعات الطوائف إلى مجتمعات الزعامات إلى مجتمعات المنظّمات غير الحكومية التي تسمي نفسها مجتمعاً مدنياً.
في مجتمعاتنا المتخلّفة، يفقد الرصين رصانته في سوق «التشليف» القائم على شاشات مملوكة من فاسدين متورّطين في كل بُنى النظام المشكوّ منه، وتحت رحمة جيل من الإعلاميين لم يحدث أن جرّبوا قراءة الدستور مرة واحدة.
في مجتمعاتنا المتخلّفة، يصبح صاحب الصوت المرتفع هو الأكثر نفوذاً بين جموع تبحث عن مكبِّر للصوت، على شكل بشري أو ماكينة، ويصبح العقل مجالاً للتندُّر، ويتحكّم البسطاء والسُّذَّج إن لم يكن المصابون بالهبل، وهم من يقرّرون الخطوة المقبلة...
في مجتمعاتنا المتخلّفة، يكفي أن يجتمع عشرة أشخاص، أصابهم السأم جرّاء نقص عاطفي أو دونية اجتماعية أو فشل في الهجرة أو بطالة مستدامة، ويقرّرون مسار مدينة بأكملها. تصبح «الثورة» أشبه ببطاقة تمكّنهم من القيام بما يحلو لهم، من تجمّع هنا وقطع للطريق هناك ورفع لافتات في مكان ثالث، وتقديم لائحة اتهام في حق هذا أو ذاك، ولا يفترض بأحد مُساءلتهم أو طردهم من الحي، لأنه إن فعل، فإنّه يكون قد اعتدى على حريات مقدّسة في هذا البلد المسخ.
في مجتمعاتنا المتخلّفة، يصبح التقدير السياسي ربطاً بوقائع، فعلاً تآمرياً، هدفه إحباط حركة شعبية تستهدف تغييراً شاملاً أو تغييراً في سلوك حاكم، وتصبح المقاربة والملاحظات ممنوعة، لأن لا صوت يعلو فوق صوت الثورة.
في مجتمعاتنا المتخلّفة، وإزاء قواعد عمل من هذا النوع، تضيع الحقيقة. وعندها لا فرق بين فاسد ومُفسد ومتضرّر. الكلّ ينزلون إلى الشارع وماشي الحال، والكلّ يعودون إلى السلطة وأيضاً ماشي الحال، والكلّ يعيدون تنظيم صفوف زعرانهم وتحريكهم في مواجهات عبثية، وأيضا نقول ماشي الحال، وهنا، فقط هنا، لا يكون للفقراء مكان للعيش، إلا على شكل مرتزقة وعصابات تجنّدها أجهزة وقوى قادرة على التخريب المنظّم.
وسط هذه الغابة من الجنون، ينظر المرء من حوله، باحثاً عن «كبار القوم»، عن الذين يقدرون أن يرفعوا الصوت ويجدوا من يستمع إليهم طوعاً أو غصباً، فلا يجد أحداً. الجميع يهربون إلى غرفة نومه السرية. لا أحد يقبل بتحمّل المسؤولية ولو كانت الكلفة خسائر جانبية. الكلّ يتحولون إلى مقامرين، لا يقبلون إلا ربحاً كاملاً صافياً ولو على حساب أهالي بيوتهم. وفي حالة غياب «الكبار»، الذين هم لاعب رئيسيّ في المجتمعات المتخلّفة، لا يكون هناك منافس للعَسَس المنتشر كالذباب الإلكتروني عند كل ناصية وفي كل ساحة!
منذ الأسبوع الأول لانطلاقة الحراك، عُقدت لقاءات وجرت مشاورات، وأشير خلالها إلى خطر داهم يتهدد منطقة لبنانية لها خصوصية، هي منطقة الشمال ومدينة طرابلس على وجه الخصوص. قليلون اهتموا بالاستماع إلى التقديرات القائمة على معطيات غير ظاهرة للجمهور. وكثيرون غرقوا في لعبة الميديا وعروس الثورة وما إلى ذلك من قصائد الحبّ والوئام والعيش المشترك وكل القصائد البالية التي تُشبه لبنان الاستعمار الفرنسي. ولكن، يجب أن يقال اليوم، ما لن يقبله كثيرون، وما قد يعتبره البعض تشكيكاً وتحقيراً وتحريضاً وخلاف ذلك من التوصيفات الانفعالية والغبيّة، ويجب أن يعرف الناس الآتي:
في طرابلس، ومنذ الأسبوع الأول للحراك، تعمل دول تتقدّمها السعودية والإمارات في تنافس حادّ مع قطر وتركيا، وبإشراف أميركي على الفريقين، وبمساعدة مجموعات سورية، كانت حاضرة بقوة في زمن العمل المسلّح ضد الدولة هناك، وناشطين تولوا خطوط الإمداد مع حمص، وبمشاركة حثيثة من خبراء الحرب القذرة في «القوات اللبنانية»، وبواسطة مجموعات فقيرة، عاطلة عن العمل، تقبل بالفُتات من أجل العيش. ومن خلف الجميع، يقف إعلام قبض ثمن ترويجه لأكاذيب وقصص من الخيال، وسط تنافس مجنون بين أجهزة أمنية محلية وإقليمية ودولية، تستهدف جعل المدينة ومحيطها، مكاناً مناسباً لإدارة معركة التحوّل في البلاد..
منذ الأسبوع الأول، أعيد فتح سوق السلاح، ويعرف السياسيون الكبار، ولو نفوا ذلك ليلاً ونهاراً، حجم الطلبات على شراء أسلحة بأسعار عالية. ويعرفون عن المجموعات التي دُفع لها من أجل إلقاء متفجّرات في مناطق معيّنة، ويعرفون العصابات التي طُلب إليها التحرك هنا وهناك، في وجه هذا العنوان أو ذاك، باسم الفساد والقهر أو خلافهما، ويعرفون الناشطين الذين يملكون القدرات التي تجعلهم يحشدون العشرات في ساعة، ويوفرون اللوازم اللوجستية في ساعة، ويستعدون للقيام بما هو مطلوب في المحافظة نفسها في ساعة أيضاً.
بعد شهر على اندلاع الحراك، وبرغم كل أنواع التبرّج الذي قام به مراهقون في السياسة وفي التغيير، ومتسلّقون يعتقدون عن غباء أنه زمن التغيير الوطني الكبير، ومعهم تجار الدم من الإعلام النافخ لسمومه في البيوت والساحات، وجد أهل الفتنة أن الأمر لا يستوي في الشمال وحده. أصلاً، لم يعد بمقدور أحد من قوى الشمال – وهذا ما هو ظاهر حتى يثبتوا العكس – القيام بحركة خارج مدار هذه الفوضى، وبالتالي، صار مطلوباً من الشمال، أن يمدّ بيروت بالعصب القادر على جعل الفتنة قصة حقيقية، وفعلاً مكتمل الصورة والهيئة. والسبب الأساسي هو أن القائمين على هذه المناورة الدموية، المستندين إلى ضعف تيار «المستقبل» بوصفه القوة الرئيسية في الشارع السُّنّي، لم يقدروا على جرّ فقراء أو أغنياء سُنّة بيروت إلى هذا الفضاء الانقلابي العبثي. وقرروا أن «أُسود الشمال» هم من سيحمي ثورة بيروت.
أضف إلى ذلك سبباً يتصل بالضعف الكبير الذي اعترى الحراك ككل، وتراجع النشاط الجماهيري الواسع من جهة، وتراجع جدوى بعض الفعّاليات التي جعلت صورة الحراك باهتة بقوة، وصولاً إلى أن كون السلطة السياسية لم تعد تتعامل مع الحراك كقوة ضغط يجب مراعاتها. وهو ما جعل بعض القوى صاحبة الرغبة والقدرة على استغلال الحراك لأغراض لا تتصل بمطالب الناس، يبحثون عن سبل «تنشيطه»، وقد وجد هؤلاء في ضرورة رفده بالناس خطوة مُلحة، ولكنّ الأمر لا يتم بطريقة تقليدية، بل من خلال عمليات دعم منظّمة لها هدفها ولها فعّاليّتها، ما يستوجب القيام بنشاط متصل بأي تحرك شعبي إضافي نحو ساحات بيروت.
طبعاً، ليس في القوى الأصلية للحراك من لديه جدول أعمال محصور في جهة دون غيرها من قوى السلطة. لكن لمن يريد استخدام الساحات لأغراض تتصل بالمفاوضات الجارية حول الحكومة ومستقبل صيغة الحكم، فإن الحاجة تصبح مُلحة لاستدراج الشارع نحو مواجهة ما. ومن دون مغالاة أو بحث طويل، فإن السؤال البسيط هو حول هُوية الطرف المفترض استدراجُه إلى مواجهة تقود إلى فتنة، ومن هو الطرف الذي يمكن استدراجه بالاستفزاز أو خلافه نحو مواجهة على الأرض توجب رفع مستوى التوتر السياسي ومن ثم الطائفي والمذهبي. ويعرف من يقف خلف هذه الأفكار أن حركة أمل هي الجهة الوحيدة التي يمكن استفزازها مباشرة، وبالتالي جعل عناصرها يستعجلون المواجهة المباشرة على الأرض. ولهؤلاء سجلهم الطويل، وخصوصاً أنهم محل انتقاد واسع من الجمهور، وأن «جسمهم لبّيس» ولديهم الجاهزية لتلك المواجهات، ويكفي أن يُشتَم رئيسهم نبيه بري حتى تندلع المواجهة.
أمام مَن بيده الأمر اليوم خيار مواجهة قاسية لمنع تكرار التجربة السورية السوداء في الشمال


ولأنه سبق للرئيس بري أن طلب من الجيش والقوى الأمنية تحمّل مسؤولية المراكز الرسمية أو المقرات التي تعود إلى المجلس النيابي، وهدّد قادة هذه الأجهزة بتحميلهم المسؤولية، فقد وجد أهل الفتنة سبباً إضافياً للتوجه مباشرة نحو بري ومنزله ومكتبه للقيام بالدور الذي سار فيه آخرون من المتظاهرين، الذين يعارضون بري لأسباب لا تتعلق بأسباب من يعملون لأجل الفتنة.
ومنذ تلك الأيام، يستنفر مقاتلون – أعضاء في «القوات اللبنانية» - للتفاعل، بالتكافل والتضامن، مع «أُسود الشمال» في مدّ ساحات بيروت بعناصر القوة لمواجهة «شيعة الثورة المضادّة». هؤلاء القواتيون الذين منعتهم ظروف مسيحية شديدة التعقيد من تحويل المناطق الممتدة من الدورة حتى طبرجا إلى ساحات مواجهة مع خصومهم، ويخشون مواجهة حتمية مع الجيش، برغم كل ضياع وارتباك وتورط بعض قيادته، قرروا أيضاً جعل ساحات بيروت مكاناً لصرف قوة وهمية نفختها أيام الحراك التعيسة. وفي طرابلس، يستفيد كل هؤلاء من نشاط رئيس فرع استخبارات الجيش هناك كرم مراد، الذي لا يتمتع بسيرة حسنة، ولا بسمعة جيدة لا لدى أهل المدينة ولا عند قواها السياسية. وهو يعمل مع أحمد الحريري، لكنه يشتم جماعته في طرابلس وعلى رأسهم مصطفى علوش، وعندما تعتقل قوى الأمن الداخلي «مشاغباً» محسوباً على المخابرات، لا يتوقف عن الاتصال من أجل التوصية به والسعي لإخراجه من سجنه، ولا يتأخر مراد عن التفاخر طوال الوقت بأنه يمسك بساحة النور وبمنصّتها وبالهتافات فيها، ويقدر على التحكم بعدد المشاركين في الحراك، لكنه يصبح فجأة غير قادر على منع تجميع عشرات الشبان الفقراء في حافلات تُفتح لها الطرقات للوصول إلى بيروت، كما هي حال آخرين يأتون من البقاع الأوسط.
اليوم، رضي من يرضى، وزعل من يزعل، أمام مَن بيده الأمر، في السلطة السياسية والأمنية والعسكرية، وفي المرجعيات الدينية والاجتماعية والأهلية، وفي ما بقي من أحزاب عاقلة، خيار مواجهة قاسية، لمنع تحويل الشمال إلى مكان يُراد منه تكرار التجربة السوداء في سوريا. ومن يقرأ في هذا الكلام تهويلاً وتهديداً، فليفعل ذلك وهو حرّ، لكن عليه أن يتذكر أنه شريك في هذه المأساة التي ستصيب البلاد كلّها.