لم يكن بمقدور الرئيس سعد الحريري وداعميه امتلاك هامش مناورة أكبر في معركة التكليف. صحيح أنه نجح، إلى حدّ بعيد، في استثمار الحراك الشعبي لإطاحة بدلاء منه لرئاسة الحكومة. لكنه فعل ذلك متّكلاً على أن حسابات القوى المحلية معطوفة على معطيات الإقليم والعالم، تمنع أحداً من الدخول في مواجهة شاملة. وهو يتصرف، الآن، على أساس أن في إمكانه إقفال باب الانتساب الى نادي رؤساء الحكومة حتى إشعار آخر. وساعده في ذلك كثيرون، من بينهم منافسون له على موقع رئاسة الحكومة وعلى الزعامة السنية.بعد إطاحة الوزيرين السابقين محمد الصفدي وبهيج طبارة، اضطر الحريري الى استخدام أسلحة نوعية لإطاحة سمير الخطيب. هذه المرة، وجد أنه لا مناص من الكشف عن الوجوه، عندما خاض معركة حماية الصلاحيات والدستور، رافضاً التفاوض على الشخص قبل التكليف، والتفاوض على التركيبة قبل التأليف. لكنه لم ينتبه الى أنه سيكون مضطراً إلى استخدام السلاح نفسه لإطاحة المرشح، ما أوصل الأمور الى لحظة تطلبت منه استنفاراً مذهبياً، تحت عنوان تمثيل السنّة، لإطاحة الخطيب، علماً بأن الاخير لم يقدم على أصل البحث في الحكومة إلا بعدما سمع من الحريري نفسه أنه يرشّحه ويدعمه.
في عودة الى وقائع اليوم الأخير من رحلة الخطيب، تبيّن أن الرجل كان في ضيافة المدير العام للأمن العام اللواء عباس إبراهيم، حين حضر فجأة وزير الاتصالات المستقيل محمد شقير، موفداً من الحريري، وحاملاً رسالة تقول إن تطورات استجدّت؛ أبرزها إعلان العائلات البيروتية رفضها تكليف الخطيب، وأن دار الفتوى تستعد لعقد اجتماع موسّع للمجلس الشرعي الإسلامي لإصدار موقف يعارض ترشيحه، وأن هناك استعداداً لاحتجاجات كبيرة في صيدا والبقاع والشمال.
سمع الخطيب الرسالة، كما سمعها إبراهيم، واتفق عندها على أن يتوجه الخطيب الى بيت الوسط على الفور وإعلان عزوفه من هناك. لكن الحريري رفض، معتبراً أنه سيصار الى تحميله المسؤولية، واتفق على مخرج يقوم على زيارة الخطيب مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان ليعلن من هناك اعتذاره، ثم الذهاب الى بيت الوسط لإبلاغ موقفه هذا الى رئيس الحكومة.
الخطيب كان يحتاج الى هذا المخرج، لأنه لا يريد الدخول في مواجهة مع «أهل بيئته». وهو كرر أن الحريري رشحه، وأنه يفضّل أن يعلن تراجعه من بيت الحريري. لكنه كان يسعى في تلك اللحظات الى تقليل حجم الأضرار التي أصابته، علماً بأن كثيرين لم يكونوا يصدقون أنه سيشكّل الحكومة، وخصوصاً أنه هو نفسه كان قد عبّر عن امتعاضه من طريقة تصرف الوزير جبران باسيل معه. وروى كيف أن الأخير حاول فرض صيغة حكومية وتوزيع الحقائب بطريقة لا تراعي أنه ليس هو من يشكّل الحكومة.
عملياً، انتهت اللعبة من خلف الستارة. وها هو الحريري حقق انتصاره الأكبر بانتزاع موقف معظم القيادات الدينية والاجتماعية والسياسية من السنّة بدعم ترشيحه. ما يعني عملياً أنه لن يكون هناك من يجرؤ على الترشح في وجهه في هذه المرحلة على الأقل. لكن الحريري لم يرد من خلال هذه الخطوة تثبيت مقولة أنه المرشح الوحيد، بل أراد القول إنه بات يمسك بورقة قوية في أي تفاوض حول الحكومة نفسها. ولذلك عاد ليسرّب بأنه لن يقبل بحكومة لا يؤلّفها هو، وعاد ليكرّر معزوفة: ليشكّلوا حكومة من دوني!
عند هذا الحد، انتقل اللاعبون الى العلن. صارت المعركة على المكشوف. ولم تعد هناك أوراق مستورة. حتى الحراك نفسه الذي تضرّر كثيراً في الأسبوعين الماضيين، لم يعد بمقدوره إدخال تعديلات جوهرية على المشهد السياسي، ولا سيّما أن الحريري صار لاعباً مكشوفاً في الشارع أيضاً، ما يعني للكل أن قواعد التفاوض تغيّرت.
عملياً، الحريري لا يزال يكرر أنه يريد حكومة تكنوقراط، وهدفه ليس إرضاء الجمهور فقط، بل يريد تركيبة حكومية تمكّنه من الحصول على دعم الخارج لمواجهة الانهيار الاقتصادي. وهو في هذا المجال، بدأ نقاشاً تفصيلياً منذ صباح أمس، والتقى عصراً موفداً من الرئيس نبيه بري، وينتظر جولة من التفاوض مع الثنائي الشيعي قبل التوجه الى القصر الجمهوري.
وإذا كان الرئيس ميشال عون مصرّاً على إجراء الاستشارات الاثنين المقبل، إلا أن نتيجة التكليف قد لا تنعكس سهولة في التأليف. وهذا ما يفتح الباب أمام تساؤلات من نوع مختلف، وخصوصاً ان هذه الوضعية ستفرض تعديلاً على استراتيجية تحالف حزب الله ــــ التيار الوطني الحر، مع العلم بأن فريق 8 آذار لا يريد البقاء أسير رغبات الحريري. ولو أن البعض يعتقد أنه لا وجود لمرشح آخر غيره.
مشروع الحريري الآن يقول إنه سيعرض تشكيلة حكومية خالية من السياسيين، على أن تضم ممثلين للقوى السياسية لكن من صنف التكنوقراط. وهاجسه إصدار بيان وزاري خالٍ من الكلام السياسي، وخصوصاً في ما يتعلق بملف المقاومة من جهة وملف العلاقات مع سوريا وإيران من جهة ثانية. وهو يعتقد بأن الوضع الاقتصادي والمالي سيكون عوناً له، فكيف إذا تمكن من الحصول على دعم مباشر من الخارج، ولا سيما في مؤتمر باريس لدعم لبنان.
في هذا المجال، لا يبدو أن الفريق الآخر مرحّب بأفكار الحريري. ومع أن الرئيس عون لم يعد يمانع تشكيل حكومة من دونه، إلا أن حلفاء رئيس الجمهورية ينظرون الى الأمر من زاوية سياسية بحتة. ومعطياتهم تقول إن الحريري يريد حكومة تحظى بمباركة المجتمع الدولي للوصول الى لحظة استعادته شخصياً ثقة الخارج به. وذلك لا يتم من دون برنامج عمل حكومي لمدة زمنية محددة، وبأهداف محددة، وهو الأمر الذي لن يمر بسهولة.
عملياً، الحريري لا يزال يكرر أنه يريد حكومة تكنوقراط خالية من السياسيين ومن بيان سياسي


في جانب التيار الوطني الحر، يقترح باسيل فكرة أن يترك الحريري يشكل حكومة مع حلفائه من دون مشاركة التيار وحزب الله. لكن الحزب لا يبدو مرحّباً بقوة بهذه الفكرة، ما يفتح الباب على نقاش قد يطول، مع ثوابت فريق 8 آذار التي تقول الآتي:
أولاً: إذا كان الحريري يريد تولّي رئاسة الحكومة، فسيكون هناك تمثيل سياسي واضح من جانب فريق 8 آذار. وهذا يعني عودة جبران باسيل وعلي حسن خليل وآخرين من الصنف السياسي الحاد نفسه. وبالتالي، لا مجال لغياب الممثلين السياسيين الواضحين.
ثانياً: إن فريق 8 آذار لن يقبل بتمثيل مقنّع للقوى السياسية الأخرى. وإذا اختار الحريري وزيراً تقنياً متفقاً عليه مع القوات اللبنانية أو مع وليد جبنلاط، فهذا يتطلّب إعلان ذلك علناً.
ثالثاً، إذا قرّر الحريري المضيّ في مشروعه، فهذا يعني أنه سيكون في مواجهة سياسية كبيرة تبدأ مع البيان الوزاري. إذ ترفض قوى 8 آذار أي بيان لا يشير صراحة الى حق لبنان في مقاومة الاعتداءات الإسرائيلية وفي حماية المقاومة كخيار في تحرير بقية الأرض المحتلة وفي مواجهة التهديدات الخارجية.
رابعاً: إن قوى 8 آذار، ولا سيما تحالف حزب الله ــــ التيار الوطني الحر، سترفض فكرة الذهاب نحو استدانة إضافية، سواء تحت اسم سيدر أو أي اسم آخر. وسيعود الجميع ليكتشف حجم الخلافات حول الورقة الإصلاحية التي قدّمها الحريري سابقاً. وستعتبر قوى 8 آذار الحريري مسؤولاً عن أي عرقلة أو تعطيل مشروعَي التكليف والتأليف.
خامساً: إن برنامج الحريري الوزاري يقتصر على إنتاج قانون جديد للانتخابات النيابية، المفضّل أن تكون مبكرة. لكنه يريد وضعاً يسمح له بالسير في عملية خصخصة القطاع العام من أجل أن يستدرّ أموالاً إضافية.
سادساً: إن محاولة وضع لبنان تحت الوصاية بسبب سوء الوضع الاقتصادي والمالي، سيقابلها رفض مطلق للشروط الخارجية التي تريد تقليص القطاع العام بطريقة صعبة معقّدة، وتدفع باتجاه وضع لبنان تحت وصاية المجتمع الدولي اقتصادياً لمواجهة الانهيار.