أوحى رئيس الحكومة سعد الحريري أن ما بعد زيارته إلى فرنسا سيكون غير ما قبلها. اعتبر الزيارة (أيلول الماضي) بمثابة نقطة الانطلاق لتنفيذ مقرّرات مؤتمر سيدر، المتعثّر تطبيقُه منذ انعقاده في نيسان 2018. لكن بعد أسبوعين من عودته لا يبدو أن شيئاً قد تغيّر (باستثناء تكثيف اجتماعات اللجان الوزارية)، والأكيد أنه لا تغيير سيحصل قريباً، بسبب البطء في تطبيق الشروط المطلوبة. صحيح أن الحريري حصل على جرعة من الدعم اللفظي من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، إلا أن الطرفين يدركان أن لتنفيذ «سيدر» مساراً واضحاً، لا مكان للمجاملات فيه، وينبغي على الحكومة اللبنانية أن تقطعه. السفير بيار دوكان، المكلّف متابعة تنفيذ مقررات «سيدر»، كان أفضل من عبّر عن الواقع بصراحة وصلت إلى حدّ الوقاحة بمعيار التخاطب بين الدول. لكن الأخير يدرك «مكانته» ويفترض أنه كناظر لسيدر، يحقّ له أن يُوبّخ الحكومة اللبنانية لعدم التزامها بما وعدت به في المؤتمر.ليست الإصلاحات وخفض الإنفاق وزيادة الإيرادات سوى الخطوة الأولى التي ينبغي القيام بها للبدء بقطف المليارات. بعد ذلك، على الحكومة أن تحدّد أولوياتها من بين المشاريع الــ180 التي قدمتها إلى المؤتمر، على أن يوافق عليها مجلس النواب، قبل أن تطلب التمويل. بعد ذلك، يأتي دور لجنتي المتابعة اللتين يفترض تشكيلهما (واحدة مقرها في بيروت والثانية في باريس)، واللتين لهما صلاحيات واسعة في الموافقة على المشاريع ومتابعة المناقصات، وصرف الاعتمادات، ثم متابعة التنفيذ.
لم ينفذ أي من شروط «سيدر» حتى اليوم. ولذلك سبق أن أعلن دوكان أنه لن يكون ممكناً في الوقت الراهن تقديم أي أموال إلى لبنان. لكن، بحسب المعطيات المتوافرة، فإن هذا الموقف لا يتناسب مع موقف البنك الدولي، الذي أبدى استعداده للبدء بصرف القروض للبنان بصرف النظر عن مقررات المؤتمر. البنك، بوصفه أكبر المساهمين في «سيدر» (4 مليارات دولار)، لا يجد نفسه مضطراً لانتظار الموافقة الفرنسية حتى يصرف ما تعهّد به، أضف إلى أن هذه التعهّدات ليست كلها مرتبطة بالمؤتمر، وإن أُعلنت خلاله. فقد سبق أن أقرّ البنك 1.7 مليار دولار للبنان، في إطار البرامج السنوية، ونصف مليار دولار عبر الذراع المالية للبنك IFC، بما يعني أن القيمة الفعلية للقروض المرتبطة مباشرة بالمؤتمر لا تتخطّى 1.8 مليار دولار فقط.
هذه المعادلة تجعل البنك الدولي يشعر أنه في موقع القوة. وأكثر من ذلك، فإن في البنك من يعتبر أن نجاح «سيدر» لم يكن ممكناً لولا مساهمته، كونه قدّم 40 في المئة من مجموع القروض التي أُقرت للبنان. وعليه، فهو لن يقبل بأن تتحول وصاية فرنسا على صرف أموال «سيدر» إلى وصاية عليه.
البنك الدولي يتمسّك بحقّه تنفيذ برامجه خارج سلطة «سيدر»


بدأت القصة مع إبداء البنك رغبته بصرف قروض تتعلق بقطاع الكهرباء، سبق أن اتفق عليها مع الحكومة اللبنانية. لكن بحسب المعلومات، رأت فرنسا في هذه الخطوة خرقاً لالتزامات «سيدر» وإفشالاً له، فطالبت رسمياً بوقف أي إجراءات لصرف القروض. لكن المفاجأة أن البنك رفض الاستجابة للطلب الفرنسي. علماً أن البنك الدولي نفسه، ليس بعيداً عن الشروط التي اتفق عليها في «سيدر». وهو سبق أن وضع في تقرير «التقييم الاستراتيجي لبرنامج الاستثمارات العامة»، الذي أعدّه، شروطاً ينبغي على لبنان الالتزام بها، ووصفها بـ«إصلاحات هيكلية وقطاعية ضرورية لضمان تحقيق الأهداف الأساسية للبرنامج الحكومي». وتتضمّن «خفض الدين العام وتحقيق نمو اقتصادي وخلق فرص عمل».
حتى اليوم لم يتّضح كيف سينتهي هذا التباين بين الطرفين، إلا أن وزيراً مشاركاً في «لجنة الإصلاحات»، يعتبر أن الخلاف لا يعدو كونه خلافاً في وجهات النظر، بين الفرع الإقليمي للبنك الدولي وبين مجلس إدارته، الذي يتألّف، في النهاية، من دول ممثّلة جميعها في «سيدر» ووافقت على مقرراته. وبالتالي، فإن إدارة الفرع الإقليمي للبنك، التي «طبّعت مع الواقع اللبناني»، لن تتأخر قبل أن تدرك أن «سيدر» صار إطاراً يصعب تخطّيه، بالرغم من أن لا شيء عملياً يفرض على البنك الدولي الالتزام بالموقف الفرنسي أو حتى بـ«سيدر».



«سيدر» ينتظر
بالرغم من مرور سنة ونصف سنة على انعقاد مؤتمر «سيدر» في باريس، لم يصل قرش واحد إلى لبنان بعد. بالنسبة إلى فرنسا، المسؤولة عن مراقبة مقررات المؤتمر وتنفيذها، فإن لبنان لم يحرز أي تقدم جدي، على صعيد الالتزام بتوصيات «سيدر»، والتي تتمحور حول تطبيق الشراكة مع القطاع الخاص وتحسين ما يسمى «بيئة الأعمال»، وأبرز ما تضمنته:
- إقرار إطار مالي لخفض العجز ونسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، عبر خفض الدعم الممنوح إلى مؤسسة كهرباء لبنان، وتعديل تعرفة الكهرباء بالتوازي مع رفع الإنتاج.
- إقرار حزمة تشريعية تكفل تنفيذ مشاريع البنية التحتية وحمايتها في حالات تعثر المشروع أو تعثر أحد أطرافه، فضلاً عن ضمان الإقراض والتحكيم الدولي، لجذب الاستثمارات الأجنبية والخاصة وتوسيع مروحتها.
- وضع وزارة المالية استراتيجية لإدارة الالتزامات المالية والمطلوبات الطارئة، بما يضمن قدرة الدولة على سدادها وتأمين استمرارية المشاريع.
- تعزيز دور المجلس الأعلى للخصخصة عبر زيادة عدد موظفيه وتمويله وتنظيم وظائفه.
- تعديل قانون المشتريات العامة، وتطوير نظام إدارة الاستثمارات العامة، فضلاً عن إقرار استراتيجية لمكافحة الفساد، وتوحيد حساب الخزينة.
- إقرار استراتيجية جمركية جدية لتسهيل التبادلات و«رقمنتها».