بعد فشل مشروعها في إقامة «عثمانية» موسّعة على امتداد المنطقة العربية، تحاول تركيا بقيادة حزب «العدالة والتنمية» إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإعادة تعويم دورها لاعباً ميدانياً وسياسياً في قضايا المنطقة ككل. من هنا، كان انخراطها المباشر في الحرب الليبية بنحوٍ يعيد صورة انخراطها الواسع والمستمر في الأزمة في سوريا، وكذلك جهودها التي لا تتوقف من أجل نشر قواعد عسكرية في أكثر من مكان، من قطر إلى الصومال ومن جيبوتي إلى السودان، فضلاً عن القوقاز والبلقان.مع ذلك، فإن حركة تركيا في السنوات القليلة الماضية كانت تهدف إلى تعزيز حضورها ونفوذها في المنطقة المحاذية لحدودها الجنوبية مع سوريا والعراق. وقد لفت في الأسابيع الأخيرة إطلاق تركيا عملية عسكرية مفتوحة سمّتها «المخلب» في شمال العراق، تريد من خلالها احتلال مناطق جغرافية بعمق 25 كلم بين جبال قنديل، حيث قيادة حزب «العمال الكردستاني»، ومناطق سنجار الإيزيدية داخل العراق على الحدود مع سوريا، حيث ثمة وجود مهم لمقاتلي حزب «العمال»، أعقب هجمات «داعش» قبل سنوات على تلك المنطقة. يقول الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إن هذه العملية لن تتوقف إلى أن يتم مسح شيء اسمه «قنديل» عن الخريطة، مهدداً بأنه سيفصل بين سوريا والعراق لمنع تواصل أكراد «العمال» بين البلدين. في الوقت نفسه، فإن التهديدات التركية بالقيام بعملية عسكرية في شمال سوريا، وتحديداً في شمال شرقيّ الفرات، لـ«تنظيف» المنطقة من «قوات الحماية» الكردية و«قوات سوريا الديموقراطية» سبقت زيارة الموفد الأميركي، جيمس جيفري، الأسبوع الماضي، إلى أنقرة. ومن الواضح أن التهديد المذكور كان جزءاً من الضغوط التركية على إدارة دونالد ترامب للقبول بالطرح التركي حول «المنطقة الآمنة». لكن مع فشل هذا «الابتزاز»، تستمرّ النبرة التركية (تحديداً سلطة حزب «العدالة والتنمية») العالية ضد الوجود الكردي في سوريا والعراق، كما في تركيا.
لا تنفصل مواقف أنقرة من الأكراد، حيثما وُجدوا، عن تطلّعها إلى توسيع نفوذها في «الشريط الحدودي» الممتدّ من إدلب إلى جبال قنديل على أكثر من ألف كيلومتر. وبذلك، دائماً ما تلازمت سياسات أنقرة الكردية مع خططها لتكون دولة إقليمية كبيرة ولاعباً على طاولات المفاوضات من خلال الورقة الكردية تحديداً. لكن كل محاولاتها لإخماد نيران المسألة الكردية لم تكن تهدف إلى إيجاد حلّ لها، بقدر ما انطوت على إشعار الأكراد بأنّ وجودهم مرتبط بمواصلة الخضوع للسلطة المركزية، ووفقاً لما ترسمه هذه السلطة لهم. هكذا كان الأمر منذ عهد أتاتورك، وصولاً إلى خلفائه وكل السلطات المتعاقبة، بما فيها تلك التي تولاها إسلاميون من حزب «الرفاه» إلى حزب «العدالة والتنمية». كان الرئيس التركي الأسبق، سليمان ديميريل، يتفاخر بأنّ الدولة أخمدت 27 تمرداً كردياً، وستخمد الـ28 وأي تمرد مستقبلي. لم تتغير وسائل مواجهة الدولة التركية للانتفاضات الكردية داخل تركيا وخارجها. وحدهما، القوة العسكرية والعنف كانا الوسيلة الأمضى. وهي اليوم تواصل المسيرة نفسها في تركيا والعراق وسوريا. ومع ذلك، لم تنجح بعد في جعل هذه المسألة طيّ التاريخ، وهو ما جعل الأصوات المعترضة على مقاربة المسألة الكردية بالعنف تتكاثر.
تواصل أنقرة سياسة «القضم التدريجي» في حدود «الميثاق الملّي»


يقول الكاتب التركي المعروف، حسن جمال: «إن ما تواجهه تركيا اليوم في سوريا هو نفسه الذي واجهته سابقاً في شمال العراق، بل التاريخ يكرر نفسه. وما فشلت تركيا في فعله في شمال العراق وانتهى إلى قيام الفدرالية الكردية، تحاول اليوم أن تفعله في سوريا، وتحديداً في شمال شرقيّ الفرات». ويرى أن المسألة الكردية تُحلّ فقط بالحوار والسلام، لا بالعنف والقوة. وهو ما دعت إليه، في مواقف مفاجئة قبل أيام، رئيسة فرع إسطنبول في حزب «الشعب الجمهوري» المعارض، جنان قفطانجي أوغلو، مطالِبةً بحلّ المشكلة في إطار مجلس النواب، وبمشاركة كل القوى السياسية المتمثلة فيه، بما فيها حزب «الشعوب الديموقراطي» الكردي. ومن تلك الأفكار «الانفتاحية» لقفطانجي أوغلو التي سيتضمنها «تقرير كردي» جديد لحزب «الشعب الجمهوري»، إبطال تركيا ملاحقة القائد الكردي السوري، صالح مسلم، عبر «الإنتربول»، مع التذكير بأن مقاربات حزبها للمسألة الكردية عبر التاريخ ليست مشجعة على الإطلاق.
إذا كان جيمس جيفري قد جاء إلى أنقرة، فإن مبعوثاً أميركياً ذهب في اليوم نفسه إلى كوباني، مقرّ قيادة «قوات الحماية» الكردية. وهو أمر «يدعو إلى القلق»، بحسب رئيس أركان الجيش التركي السابق، إيلكير باشبوغ، الذي دخل السجن سابقاً بتهمة التآمر على أردوغان. يقول باشبوغ: «إن الذي عجزنا عن فعله في شمال العراق يجب أن ننجح فيه في شمال سوريا». ويضيف أنه في المبدأ ضد المنطقة الآمنة، «لأننا جربناها في شمال العراق، فكانت النتيجة حظر طيران يحمي الأكراد هناك فوصلوا إلى إقامة دولتهم». أما اليوم، «فحزب العمال الكردستاني يتحول في شمال سوريا إلى دولة. فكيف يمكن تركيا أن تقبل بهذا الوضع؟ إنها مسألة بقاء. وما حصل في شمال العراق يتكرر في سوريا وعلى تركيا ألّا تقبل بمنطقة آمنة كما يريدها الأميركيون». ويرى الكاتب، أورخان بورصالي، في صحيفة «جمهورييت» أن الولايات المتحدة تريد إقامة «ممر أميركي» في شمال سوريا، لا ممر كردي، فيما تريد تركيا أن تجذب الأميركيين إلى جانبها، وتقيم منطقة آمنة بالتعاون معهم حصراً. لكن مثل هذه الخطط لا توصل، برأي بورصالي، إلا إلى تقسيم سوريا. وهذا يتعارض مع مصلحة تركيا في بقاء سوريا موحدة. ويخاطب بورصالي الحكومة التركية بأن السبيل الوحيد لدرء الانفصالية الكردية في سوريا، وبالتالي في تركيا، مدّ جسور التعاون مع النظام السوري، مشدداً على أن المسألة الأمنية لا يمكن حلها إلا بالتنسيق مع دمشق. ويرى أن «سياسة أنقرة في التوازن بين روسيا وأميركا لن تنفعها في حفظ وحدة سوريا، ولا في ضمان أمنها الجنوبي. وهذا ما يجب أن تفكر فيه تركيا عشية اجتماع أستانا المرتقب مطلع شهر آب».
في ظل هذا المشهد الغامض، تواصل تركيا سياسة «القضم التدريجي»، بدءاً من شمال العراق وصولاً إلى شمال سوريا، في حركة لا تنفكّ تذكّر بأنّ حدود حركتها الجغرافية والسياسية والاجتماعية هي حدود «الميثاق الملّي» نفسه لعام 1920.