في آب الماضي، تعرّض أحد مطربي حلب المشهورين للاختطاف ولم يُطلق سراحُه قبلَ دفع فدية ماليّة قيمتها حوالى خمسة وعشرين ألف دولار. كان المطربُ قد أمضى فترة طويلة في لبنان أحيا خلالها عدداً من الحفلات، ثمّ عاد إلى دمشق وفي حوزته ما جناه خلال تلك الفترة. من دمشق انطلق إلى حلب، مستقلّاً سيارةً فارهة تعودُ ملكيّتها لرجل أعمال حلبي معروف أحبّ أن يُكرم صديقه المطرب على طريقته، فأوعز إلى أحد سائقيه بتولي مهمّة إيصاله. لا اعتبارات ستنفعُ هنا، ولن يردعَ الخاطفين اسم صاحب السيّارة ولا مكانةُ الفنّان. لدى الخاطفين قوانينُ خاصّة بهم، فالسيّارة الفارهة صيدٌ ثمين والمطربُ كذلك. لم يكن الخاطفون سوى عناصر أحد الحواجز المحسوبة على «الدّفاع الوطني» في منطقة السلميّة، قام هؤلاء بـ«بيع» الصّيد إلى جماعة أخرى محسوبة على الجهة ذاتها، لكنّها «أكثر نفوذاً». أمّا السائق فقد توفي إثر إصابته بنوبةٍ قلبيّة، أما المطرب فكان عليه أن ينتظر نجاح المفاوضات. لم تنجح مساعي رجل الأعمال ولا علاقاته الكثيرة والمتشعّبة في الوصول إلى أحدٍ «يمون على الشّباب». وحدَها الفديةُ كانت مفتاحاً لعودة المطرب سالماً إلى عائلته، بينما استولى الخاطفون على المال الذي كان في حوزته، وعلى السيّارة بطبيعة الحال. الأذى النفسي الذي تعرّض له الرّجل شكّل «رادعاً» له، فرفض الخوض في أي تفاصيل تتعلّق بالحادثة. كما أنّه لم يجد طائلاً من تقديم شكوى لأي جهة كانت، فمن الواضح تماماً أنّ سلطة الخاطفين في منطقتهم مُطلقة. ليست هذه سوى واحد من الحوادث الكثيرة التي اعتاد السوريون وقوعها في بعض مناطق سلطة دولتهم، وعلى رأسها المنطقة الممتدة بين السلمية والسفيرة. وتشكّل المناطق المذكورة ممرّاً إجباريّاً للمسافرين والبضائع من أي منطقة في سوريا إلى مدينة حلب، و«كل شي إلو سعرو».

بعض الحواجز أصبحت «مُنافسة» لـ«حواجز المليون»

«حاجز المليون» وورثتُه
في فترات سابقة، كانت حوادث الاختطاف و«التشليح» أقلّ، وكان حدوثها مقتصراً على منطقة نفوذ «حاجز المليون» الشهير. استمدّ الأخير تسميتَهُ من «غلّته» اليوميّة، والتي كانت تُقدّر بمليون ليرة سورية تُجنى من العمليات الروتينيّة فقط، من دون احتساب حالات الاختطاف المتكرّرة (خوّات وأتاوات ثابتة من سائقي سيارات الأجرة الصغيرة، وأخرى أكبر من سائقي البولمانات، وثالثة أكبر من الاثنتين من سائقي سيّارات الشحن). قبل أشهر، تلاشى كابوس «المليون»، بعدما استُبدل بآخر تابعٍ للجيش السوري. لكنّ كوابيس أخرى حلّت محلّه، إذ انضمّت حواجز جديدة إلى «البورصة» على الطريق ذاته، ومن أشهرها حاجز السّعن (الذي استمدّ تسميته من المنطقة الواقعة في ريف حماة)، وحاجز «شلّة» قرب مدينة السفيرة (تسميته جاءَت من اسم متزعّم المجموعة التي تتولّاه). قصصٌ يوميةٌ يرويها أبناء حلب المسافرون منها وإليها عن ممارسات الحاجزين المذكورين، إلى درجة جعلتهما مُنافسَين شرسين لـ«حاجز المليون».

حكايات... وحكايات
علاوةً على أنّ أي سيارة فارهة هي هدفٌ محتملٌ لعمليّة اختطاف، فقد تزايدت خلال الشهرين الأخيرين قصص النهب والابتزاز التي تستهدفُ المسافرين من حلب وإليها. لا يحتاج الابتزاز إلى أكثر من ذريعةٍ تجعلُ من المسافر فريسةً لعناصر الحواجز. الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و42 عاماً هم «بضاعةٌ مضمونة» في هذا السّياق. فمهما كانت الوثيقة التي سيقدّمها أحدهم ليثبتَ أنّه غير مطلوب للخدمتين الإلزاميّة أو الاحتياطيّة فهي «بحاجة إلى تدقيق». والتّدقيق يعني «الانتظار عندنا حتّى نخاطب الجهات الأمنيّة ونفهم وضعك»، وبطبيعة الحال يرضخ «العاقلون» للأمر الواقع ويدفعون «المعلوم» مقابل بقائهم مع رفاق السّفر، فهذا أضمنُ من بقاء أحدهم منفرداً «تحت رحمة الشّباب الطّيبة». أصحاب البطاقات الشخصيّة المكسورة أيضاً يشكّلون صيداً طيّباً، حتّى لو حمل أحدهم وثائق تثبت أنّه راجع الجهات الحكوميّة المعنيّة، وقدّم طلباً لاستبدالها. كذلك، فإنّ مشاهدة أي هاتف خلوي في يد صاحبه ستكون سبباً كافياً لمصادرة الهاتف لأنّ «الجوّال ممنوع عالحواجز». انتفاء أيّ من الأسباب السابقة لن يعفي المسافرين من الابتزاز، فالوسائل كثيرة و«مُبتكرة» ومتجدّدة. وعلى سبيل المثال، سماعُ أي مسافر لجملة من قبيل «شو بيقربك الإرهابي فلان الفلاني (يُرمى اسمٌ لا على التعيين مع كنية مثل كنية الضحيّة)»، أو «اسمك مارق عليّ، غالباً قريتو بقائمة الإرهابيين المطلوبين» سيكون كفيلاً بدفع المسافر المبلغَ المطلوب حتماً.

... وسيّارات الشّحن «فانوس سحري»
حتى وقت قريب، كان عدنان (اسم مستعار) يعملُ سائقاً لسيّارة شاحنة تنقلُ السلع الغذائيّة بين مدينتي حماة وحلب. قبل عشرة أيّام، اتّخذ الرّجل قراراً قطعيّاً بترك المهنة، والبحث عن مصدر رزق آخر بسبب «حاجز شلّة». يقول عدنان لـ«الأخبار» إنّ «دفع المعلوم على الحواجز صار بمثابة عرف ثابت منذ سنوات. لكلّ حاجز تسعيرةٌ معروفة، تزيد أو تنقصُ تبعاً لحجم الحمولة ونوعها». ويضيف: «اعتدنا على ذلك ورضخنا له، فكلّ من يمتنع عن الدفع سيُصبح عُرضةً لممارسات كثيرة، أبسطُها توقيف سيارته ساعات طويلة، وإجباره على إفراغ كامل حمولتها مهما كانت بحجة تفتيشها». الحل السّهل كان توافق أصحاب سيارات الشحن والتجّار على تقاسم «الكلفة الزائدة»، ما يعني بطبيعة الحال أنّ رأسمال السلعة سيصبحُ أكبر، ليقع الفأس آخر المطاف في رأس المستهلك الذي يتعارف الجميع على أنّه «حمّال الأسيّة» والحلقة الأضعف في السلسلة التجاريّة. لكنّ «جماعة شلّة تجاوزوا كل القواعد المتعارف عليها، صاروا يطلبون مبالغ خرافيّة، وينهبون جزءاً من البضائع، وفي الوقت ذاته يتفنّنون في إهانتنا» يقول عدنان. لا يشكل الرجل حالة فرديّة، فكثير من أصحاب الشاحنات صاروا يرفضون العمل على خط حماة ــ حلب لأسباب مماثلة. ولا ينطبق هذا على مكاتب الشحن الكبيرة التي دأبت منذ أكثر من عام على التّعاقد مع «شركات ترفيق». والأخيرة عبارةٌ عن «شركات» تقوم بتأمين مُرافقة مسلّحة لمواكب الشحن، وغالباً ما يشتمل الموكب على سيارة مزوّدة بمدفع «دوشكا»، وعدد من العناصر المسلّحين (يزيد العدد أو ينقص تبعاً لحجم الموكب، وأحياناً يضم الموكب أكثر من دوشكا). لا تتوافر معلومات موثوقة عن طبيعة هذه «الشركات» وهل هي مُرخّصة لممارسة أعمال من هذا النوع، أم أنّها تعمل اعتماداً على نفوذ أصحابها. ويسود اعتقادٌ لدى بعض أصحاب الشاحنات الذين يعملون منفردين، أو أصحاب المكاتب الصغيرة بأنّ «اعتداء بعض الحواجز على سياراتنا ليس سوى وسيلة لدفعنا إلى التعاقد مع شركات الترفيق، كلّهم شركاء»، يقول أبو محمّد لـ«الأخبار». يوجز الرجل حكايته ببضع جمل تتخلّلها ضحكاتٌ ونشيج: أُجبرَ قبل شهرٍ على ترك شاحنته هي وحمولتها عند أحد الحواجز، ونُصح بألّا يُفكّر في تقديم شكوى وأن «يضحك في عبّه» لأنّه «نفد بجلده».




... وفي مناطق أخرى: تصنيفات وتفاهمات
حكايات السوري والحواجز حاضرة في معظم مناطق سيطرة الدولة. ثمّة تصنيف شبه متوافق عليه في أوساط المسافرين مفادُه بأنّ «معظم حواجز الدّفاع واللّجان حواجز انتفاع» فيما حواجز الجيش حواجز «واجب»، أمّا حواجز «الحرس الجمهوري، والفرقة الرّابعة فلا مزاح معها». يختلف الحال بين منطقة وأخرى، حواجز المدن الساحليّة صارت تكتفي بنوع من «التفاهمات» بينها وبين السائقين باتت أشبه بالعرف. يدفع كلٌّ من سائقي سيارات الأجرة الصغيرة مبلغاً «زهيداً» لبعض الحواجز يراوح بين 100 و200 ليرة للعبور الواحد، ويُعد الحاجز الذي يُطالب بأكثر من ذلك «طمّاعاً». أمّا السّائق الذي يمتنع عن الدفع فهو «بخيل» وعقوبتُه قد تصل إلى الوقوف ساعات عند حاجز واحد توخيّاً لـ«التفتيش والتدقيق». سائقو «خط بيروت» زبائن مفضّلون عند الحواجز الممتدة بين اللاذقية ونقطة العريضة الحدوديّة مروراً بطرطوس. ويرى بعض السائقين في سلوك هذه الحواجز أمراً مبرّراً فهم «يقفون تحت الشمس والبرد». يندر الاحتكاك المباشر بين العناصر والمسافرين الأفراد، باستثناء مداخل بعض المدن، حيث يتولّى العناصر تدقيق الهويّات وعرض بعضها على «التفييش» وفقاً لاعتبارات مناطقيّة غالباً. على نحو مماثل تسير الأمور بين نقطة المصنع الحدودية والعاصمة دمشق، وينفرد حاجزُ الصبّورة بتطبيق إجراءات تفتيش وتدقيق صارمة على الجميع. ويشبهه في ذلك حاجز القْطيفة على بوابة دمشق الشماليّة (معبرٌ إجباري للآتين من معظم المدن السورية باستثناء السويداء ودرعا). وحدَهم سائقو الفانات التي نشطت خلال السنة الأخيرة في نقل المسافرين بين الساحل والعاصمة استثناء شبه دائم، فغالباً ما يكون للسّائق صديق أو «ابن ضيعة» عند كلّ حاجز.