لندن | الرئيس المطعون في شرعيته، خوان أورلاندو هيرنارديز، أَمَر بإنزال الجيش إلى الشارع لقمع المتظاهرين في هندوراس (أميركا الوسطى)، بعدما عصت بعض قوات الشرطة أوامره، وانضمت إلى المواطنين المحتجّين عشية الذكرى العاشرة لانقلاب عام 2009. وعلى رغم سقوط قتلى وجرحى، فإن قوى المقاومة الشعبية كافة مصمّمة على ما يبدو على مطلب إسقاط الرئيس.لم تهدأ هندوراس يوماً، منذ تنفيذ عناصر يمينية في جيشها انقلاباً مدعوماً من الولايات المتحدة (28 يونيو / حزيران 2009) لإطاحة حكم الرئيس الشرعي للبلاد مانويل زالايا، الذي خُطف ليلتها وأرسل على متن طائرة عسكرية منفياً إلى كوستاريكا. فالرجل الذي يمثل يسار الوسط، وأثار حساسية الولايات المتحدة إثر تقاربه مع فنزويلا أثناء حكم هوغو تشافيز، كان له مناصرون كثر، وهؤلاء استمروا في التظاهر والاحتجاج لبعض الوقت. لكن السياسات النيوليبرالية القاسية التي شرعت في تنفيذها السلطات اليمينية الجديدة بتوجيهات من صندوق النقد الدولي، دفعت قطاعات عديدة في المجتمع إلى إطلاق احتجاجات متتابعة، قوبلت دائماً بالقمع وخطف الناشطين وقتلهم خارج القانون. لكن الاضطرابات تصاعدت إلى مستوى غير مسبوق عشية الذكرى العاشرة لذلك الانقلاب، واتسعت لتصبح ظاهرة شاملة في الأسابيع القليلة الماضية، لا سيّما بعدما تمادت السلطات الانقلابية في مشاريعها الرامية إلى فرض تخفيض قاس على مخصصات قطاعي التعليم والصحة تحديداً، والتي رغم تراجعها إلى أقل من نصف المستويات التي كانت عليها وقت إزاحة زالايا، إلا أنها تمثل للأغلبية الساحقة من السكان آخر ما تبقى لهم في بلدهم الذي يعد رسمياً أفقر دول أميركا اللاتينية (76% من السكان مصنّفون رسمياً فقراء).
الرئيس الحالي، خوان أورلاندو هيرنارديز، اضطر إلى استدعاء الجيش لقمع هذا التصاعد، ما يعني استخداماً مكثفاً للذخيرة الحية ضد المتظاهرين العزّل. ويبدو الرئيس، الذي يقود حكومة يمينية إثر انتخابات عام 2017 (يُعتقد على نطاق واسع بأن نتائجها مزورة)، رازحاً تحت ضغوط متزايدة؛ إذ إن قطاعات من الشرطة المكلّفة بمحاربة الجريمة المنظمة أعلنت انحيازها للشعب، والتحق أفرادها بالمتظاهرين. كذلك، نجح طلاب الجامعات في لفت انتباه العالم إلى ما يجري في بلادهم رغم التعتيم الإعلامي الشديد، بعدما وجهوا رسالة مباشرة إلى حكومة الولايات المتحدة، راعية الأوليغارشية الحاكمة في البلاد، عبر محاولة اقتحام مقر سفارتها في العاصمة تيغوسيغاليا. محاولة انتهت بإحراق بوابة السفارة، رغم التدخل العنيف لقوات الجيش.
في ظل تشتت قوى المعارضة ستجد واشنطن طرقاً لتمديد عمر النظام الحالي


اتساع نطاق الاضطرابات في هندوراس، وتوحّدها على مطلب رحيل هيرنارديز، دفع بالأميركيين القلقين من تدحرج الأوضاع نحو ثورة يسارية تعيد البلاد إلى أجواء ما قبل 2009، إلى اتخاذ خطوات حذرة للنأي بالنفس عن الرئيس. وقد كشفت إدارة مكافحة المخدرات الأميركية، أخيراً، من دون مقدمات، عن وثائق تشير إلى تورّطه شخصياً في أعمال تهريب المخدرات (رغم أن تلك الوثائق كانت بحوزتها منذ عام 2013). لذلك، لا يستبعد كثيرون أن تضحّي واشنطن قريباً بالرئيس ليكون كبش فداء، بدل المخاطرة بالنظام كلّه. القلق الأميركي ليس متأتياً فقط من احتمال خسارة مصالح اقتصادية مهمة في البلاد، التي طالما عدتها جزءاً من حديقتها الخلفية، بقدر توجسها من إرسال الإشارات الخطأ إلى الجماهير في كل بلدان أميركا الجنوبية التي تحكمها حكومات يمينية فاسدة جاءت نتيجة انقلابات مماثلة. كانت هندوراس، تحديداً، مختبر التجارب وأول أحجار الدومينو التي سقطت نتيجة الحملة الأميركية لوقف ما عرف بموجة مد اليسار الوردي ــ الأقل جذرية من شيوعية كوبا الحمراء ــ والتي كان تشافيز صوتها الأعلى وكادت توحد أميركا الجنوبية في مواجهة النفوذ الأميركي. وبعد تنفيذ انقلاب هندوراس، تكرر الأمر وفق المنهج الملتبس دستورياً في باراغواي والبرازيل، اللتين فقدتا سلطاتهما المنتخبة لمصلحة قلّة تدعمها الاستخبارات الأميركية. كذلك، فإن الكشف عن فضائح العشرية المنصرمة من حكم اليمين في هندوراس (تضاعف الدين العام، سياسات الخصخصة وبيع القطاع العام، تقليص حاد في التقديمات الاجتماعية وتوسع دائرة الفقر المدقع لمصلحة الأقلية الثرية) سيضعف ادعاءات المعارضة في فنزويلا التي طالما وعدت الشعب هناك بحلول سحرية فور إزالة النظام التشافيزي. يُذكر أن الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، كان نفى علناً علاقة بلاده بانقلاب عام 2009، لكن وزيرة خارجيته، هيلاري كلينتون، اعترفت لاحقاً في مذكراتها بدعم الانقلابيين وتوجيههم.
المطّلعون على مجريات الأمور على الأرض في تيغوسيغاليا غير متفائلين بقدرة التحركات الشعبية والعمالية الحالية على تحقيق انتصار نوعي يتجاوز مسألة إسقاط شخص هيرنارديز إلى كسر هيمنة الطبقة الأوليغارشية برمّتها، نظراً إلى غياب قيادة سياسية فاعلة توحّد النضال وتوجهه استراتيجياً لبناء جمهورية جديدة. فالمنخرطون في العمل السياسي في البلاد كمعارضة، منقسمون على أنفسهم إلى ثلاث كتل غير متجانسة ما بين مؤيدي سلفادور نصر الله مرشّح الرئاسة الذي خسر بالتزوير انتخابات عام 2017، ومؤيدي الرئيس السابق مانويل زالايا الذي أزيح عن السلطة في انقلاب عام 2009.
وبينما نجح طلاب الجامعات، إلى الآن، في تقديم نموذج طليعيّ يمتلك حداً أدنى من الوعي بطبيعة الصراع المركزي مع الولايات المتحدة، إلا أن أجنحة متنافسة داخل الحركة الطالبية تصعّب اتخاذ القرارات، وكثيراً ما تشرذم العمل النضالي. أما العاملون في قطاعات التعليم والخدمات الصحية الذين يشكلون كتلة مهمة من زخم الحراكات الأخيرة بحكم مواجهتهم خطورة تقلّص مداخيلهم أو فقدان وظائفهم نتيجة حزمة مشروعات الخصخصة الأخيرة، فإن مطالبهم تبدو عموماً متدنية السقف، وهناك خطر من تحييدهم فور إقالة الرئيس، أو حتى حصولهم على ضمانات من النظام لحقوقهم. هذا فضلاً عن أن الكثير من الاحتجاجات في الأطراف خارج العاصمة والمدن الكبرى تنحو إلى الجهوية والتركيز على قضايا بيئية وعرقية محددة.
في ظل تشتت قوى المعارضة، وغياب التوافق على رؤية استراتيجية للمعركة مع النظام وداعميه بين فئاتها المختلفة، إلى جانب انعدام التضامن إقليمياً وعالمياً مع شعب هندوراس، فإن الولايات المتحدة ستجد حتماً طرقاً لتمديد عمر النظام الحالي، حتى لو اضطرت إلى التضحية مرحلياً ببعض الشخصيات أو السياسات. ولذا، فإن الأمل الوحيد يبقى الآن في أن تتعملق الطبقة العاملة لتتجدد تجربة إضراب الـ1954 الناجحة ضد شركة «يونايتد فروتس» الأميركية ـــ كانت تهيمن على البلاد بالكامل في عقد الخمسينيات ـــ التي قادتها وقتها لجان محلية، ونجحت ولو جزئياً في الحصول على مطالب العمال المضربين، وأطلقت أهم موجة تغيير في تلك البلاد.