فُرمِل ملف المحاسبة في فضيحة الفساد القضائي يوم اقتصر «كفُّ اليد» على خمسة قضاة. أُطيح هؤلاء القضاة من مراكزهم، كإجراء احترازي، ريثما يقول المجلس التأديبي كلمته النهائية، على الرغم من تمتُّعهم، حتى اللحظة، بقرينة البراءة. اعتقَد كثيرون أنّ ورشة الإصلاح القضائي بدأت، إلا أنّه سرعان ما ارتعش القيّمون على الصرح القضائي عندما أطلّت السياسة برأسها. جُمِّدت حملة مكافحة الفساد على عتبة مكتب مفوّض الحكومة القاضي بيتر جرمانوس. ورغم أنّ عدد القضاة المشتبه فيهم الذين وردت أسماؤهم في إفادات الموقوفين تجاوز الـ ١٦ قاضياً، لم تجرؤ هيئة التفتيش القضائي على كفّ يد أي قاضٍ آخر. صامت الهيئة وبقي الملف على حاله طوال شهر ونصف شهر إلى أن تدخّل رئيس الجمهورية ميشال عون لإعادة تحريكه. وبعد رفضه الخضوع للاستجواب أمام هيئة التفتيش القضائي بذريعة خضوعه لوزارة الدفاع، مَثَل القاضي جرمانوس أخيراً أمام الهيئة القضائية نفسها. استُجوِب ليُسأل عن مضمون إفادات الموقوفين الذين ذكروه بالاسم. وفي هذا السياق، علمت «الأخبار» أنّ هيئة التفتيش اختتمت التحقيق مع القاضي جرمانوس بحيث يُنتظر صدور قرار بشأنه. فإما أن يُقفل الملف لأنه خالٍ من أي شبهة، أو أن هيئة التفتيش ستحيله على هيئة التأديب، مع توصية لوزير العدل بوقفه عن العمل أسوة بما حصل مع باقي القضاة.إزاء الواقع المستجِد الذي يُحكى عنه، تؤكد المصادر القضائية أنّ ما يُسمى «ورشة مكافحة الفساد» استُؤنفت بالوتيرة التي بدأتها. وهنا يستعيد أحد القضاة ما جرى في قوى الأمن لدى مَنع زعيم الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط محاسبة أحد الضباط المحسوبين عليه، ليتسبب ذلك بوقف استدعاء أو توقيف أي ضابط، قبل أن تُستأنف الحملة بعد استجواب الضابط المحمي ثم توقيفه. غير أنّ كل ما سبق لا يُلغي جملة من الأسئلة التي يضعها عدد من القضاة برسم هيئة التفتيش القضائي، تتعلّق بالعدالة في التعامل مع القضاة. يتحدث أحد القضاة لـ«الأخبار» عن مظلومية تعرّض لها زملاؤه الذين أوقفوا عن العمل، مستغرباً أن يتم اتخاذ إجراء خطير كهذا بحق بعضهم، استناداً إلى إفادة موقوف حصراً! يسأل هذا القاضي: «هل هناك أي دليل آخر استندت إليه هيئة التفتيش سوى أقوال الموقوفين المشكوك فيها أصلاً؟» ويستغرب هذا القاضي أن تساوى إفادة مشتبه فيه مطلوب بمذكرات توقيف بكلمة القاضي فيسأل: «ما حصل يُعرِّض جميع القضاة لخطر الانتقام.
«هل استندت هيئة التفتيش إلى دليل سوى أقوال الموقوفين المشكوك فيها أصلاً؟»

إذ إنّ ذلك يفتح الباب أمام أي متضرر من أحكام القضاة ليثأر بالإدلاء بإفادة ضدهم». ماذا عن التسجيلات الصوتية والمحادثات الموجودة على هواتف الموقوفين؟ ألا تُثبت هذه التسجيلات بالدليل القاطع تورّط القضاة مع الموقوفين؟ سؤال يُجيب عنه قاضٍ بالنفي، معتبراً أنّ «التحقيق يُبيّن إذا ما كان هذا القاضي قد استجاب لطلبات السماسرة أو أنّه جاراهم بالكلام لا أكثر!». ويشير إلى أنّ مضمون التسجيلات الذي تسبب بإيقاف خمسة قضاة عن العمل يستوجب إنزال عقوبة «اللوم» بالقضاة في الحد الأقصى ويختم قائلاً: «لماذا لم تنتظر هيئة التفتيش قرار المجلس التأديبي، ولماذا لم يُعامل باقي القضاة أسوة بالذين أوقِفوا عن العمل». قاضٍ آخر يستغرب أن يصدر قرار بطلب طرد قاضٍ من السلك وتُكسر درجات قاضٍ آخر من دون أن يُطلب كفّ يده طوال فترة التحقيق والمرحلة التي سبقت إدانته. كذلك يتحدث هذا القاضي عن «محاسبة كيدية لقضاة لقاء تلقّي بعضهم هدايا» لا يراها ذات قيمة، كمسدس على سبيل المثال، فضلاً عن وجود «أمر مستهجن في أحد التحقيقات التي أجرتها هيئة التفتيش، حيث ذكر موقوف أنه قدّم لقاضٍ «مسبحة» و«صحن حلويات وصحن فواكه» في أحد المنتجعات السياحية، فاعتبرت هيئة التفتيش هذا الأمر رشوة، رغم عدم وجود دليل عليه، وفي ظل نفي القاضي لإفادة الموقوف». ويشير المصدر القضائي إلى أنّه لم يتبيّن حتى اللحظة أنّ القضاة استجابوا وتلاعبوا بالملف لمصلحة من يزعم تقديم الهدايا لهم، «إلا أن هيئة التفتيش عملت تحت ضغط الإعلام والسياسة»!
غير أنّ لهيئة التفتيش رأياً آخر. فقد ذكر الموقوفون أنّ هؤلاء القضاة كانوا يساعدونهم بحكم «المونة» ويتوسطون لدى قضاة آخرين للإسراع في بت إخلاءات السبيل أو استرداد أسلحة مصادرة. وإزاء ذلك، اعتبرت هيئة التفتيش القضائي أنّ مساعدة أصحاب الملفات العالقة وتصرفات القضاة المشتبه فيهم «تشكل خفة في التعاطي وخروجاً عن موجبي الترفع والتحفّظ الملزم بهما القاضي في علاقته مع الآخرين».

بعض القضاة في الأطراف لا يذهبون إلى مكان عملهم إلا مرة واحدة أسبوعياً!


كذلك تحدث أحد القضاة عن «مخالفة تُرتكب تتثمّل بقبول هيئة التفتيش القضائي كُتباً وإخبارات صادرة عن مواطن صالح وفاعل خير خلافاً للقانون!». يعتبر هذا القاضي أنّ «هذه الكتب التي لا يُذكر فيها اسم صاحبها تتسبب بإحالة قضاة على التفتيش بشكل مخالف للقانون!».
ما جرى حتى اليوم في ما يُسمى «ملف مكافحة الفساد» لا يُقنع قضاةً كثيرين. أحدهم يقول إن الفساد في القضاء أكثر عمقاً من زعم موقوف أنه قدّم هدية لقاضٍ، رغم كون هذا الأمر يٌعد رشوة، مهما كانت قيمة الهدية منخفضة. فأزمة القضاء، بحسب بعض العاملين فيه، «بنيوية، ومتصلة بكون السلطة القضائية تحوّلت إلى ذراع للسلطة السياسية. وإدارياً، الأمور فالتة، فبعض القضاة في الأطراف لا يذهبون إلى مكان عملهم إلا مرة واحدة أسبوعياً، وبعلم وزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى، من دون اتخاذ أي إجراء بحق المقصرين». ويضيف أحد القضاة المعروفين ببعدهم عن القوى السياسية، مثلاً آخر عن «فساد لا يرى فيه أحد فساداً، رغم كونه من أصل العلل في العدلية»، برأيه. يقول: «مجلس القضاء الأعلى يحصل على إحصاءات بعمل القضاة، فهل تؤخذ هذه الإحصاءات بعين الاعتبار في التشكيلات القضائية؟ للأسف لا. فمن يعمل ليل نهار لإنجاز عمله، ويكون عمله متقناً، يُعاقَب بمركز غير مهم إذا لم يكن مدعوماً، فيما يُكافأ بأفضل المراكز قضاة مدعومون سياسياً، رغم معرفة المسؤولين في العدلية بأنهم لا يعملون، وأن المساعدين القضائيين يقومون بجل العمل نيابة عنهم، ويكتفي هؤلاء القضاة بالتوقيع، وفي بعض الأحيان، يوقّع قضاة على بياض، من دون أن يحاسبهم أحد».