أنسي الحاج هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة؟ النثر محلول ومرخي ومبسوط كالكف، وليس شد أطرافه إلا من باب التفنن ضمنه. طبيعة النثر مرسلة، وأهدافه إخبارية أوبرهانية، إنه ذو هدف زمني، وطبيعة القصيدة شيء ضد. القصيدة عالم مغلق، مكتف بنفسه، ذو وحدة كلية في التأثير، ولا غاية زمنية للقصيدة.

النثر سرد، والشعر توتر، والقصيدة اقتصاد في جميع وسائل التعبير، النثر يتوجه إلى شيء، يخاطب وكل سلاح خطابي قابل له. النثر يقيم علاقته بالآخر على جسور من المباشرة، والتوسع، والاستطراد، والشرح، والدوران، والاجتهاد الواعي- بمعناه العريض- ويلجأ إلى كل وسيلة في الكتابة للإقناع. الشعر يترك هذه المشاغل: "الوعظ والإخبار والحجة والبرهان، ليسبق. إنه يبني علاقته بالآخر على جسور أعمق غورا في النفس، أقل تورطا في الزمن الموقت والقيمة العابرة، أكثر ما تكون امتلاكا للقارئ، تحريرا له، وانطلاقا به، بأكثر ما يكون من الإشراق والإيحاء والتوتر.
أما القصيدة فهي أصعب مع نفسها من الشعر مع نفسه. القصيدة، لتصبح هكذا، يجب أن تقوم على عناصر الشعر لا لتكتفي بها وإنما لتعيد النظر فيها بحيث تزيد من اختصارها وتكريرها، وشد حزمتها. القصيدة، لا الشعر، هي الشاعر. القصيدة، لا الشعر، هي العالم الذي يسعى الشاعر، بشعره، إلى خلقه. قد يكون في ديوان ما شعر رائع ولا يكون فيه قصيدتان، بل يكون كله قصيدة واحدة، فالقصيدة، العالم المستقل الكامل المكتفي بنفسه، هي الصعبة البناء على تراب النثر، وهو المنفلش والمنفتح والمرسل، وليس الشعر ما يتعذر على النثر تقديمه، فالنثر منذ أقدم العصور وفي مختلف اللغات يحفل بالشعر حفلا إذا قيس بشعر النظم يغلب عليه.
النثر، تقول العرب، خلاف النظم من الكلام. النثر، يقول الفرنجة، كل ما يقال ويكتب خارج النظم. القصيدة من أبيات، بل يذهب العرب إلى الاشتراط: ما فوق السبعة أو العشرة أبيات؛ والتحديد الكلاسيكي للقصيدة عند الفرنسيين هو أن تكون مجموعة كبيرة من الأبيات. بكلمة: النثر خلاف الشعر (لأن الشعر، لا القصيدة وحسب، هو النظم في نظر التقليديين) والقصة، وهي كائن نثري، خلاف القصيدة التي هي كائن شعري. وهنا يبدو البحث في قصيدة النثر هذيانا.
لكن التحديد الكلاسيكي للأشياء خاضع للتطور، وما يشتقه أو ما يبدعه التطور ويبقى حيا أي ملبيا لحاجات الإنسان لا محض موجة تكسرها في أثرها موجة، يحتل مكانه إما بجانب المفاهيم السابقة أو على أنقاضها. وما يجوز على المفهوم يجوز على العطاء. قصيدة النثر احتلت في أدب كأدب فرنسا مكانها الطبيعي حيث تمثل أقوى وجه للثورة الشعرية التي انفجرت منذ قرن. أما عندنا فأخف ما تنعت به، على العموم ، أنها هجينة، وأرصن ما يقول فيها المترصنون أنها سحاب زائل يغشى السماء الأزلية. خارج بضعة من المرافقين المتفهمين، يمكننا أن نرى المهلل الذي يهلل لكل جديد سعيا خلف إرواء ظمأ سطحي إلى إثارة كإثارة الزي، والصعلوك الذي يعلق كحشرة بجسم كل انتفاضة تعشقا منه للتهريج والظهور، المعرض، المهاجم، المتشكك، والمتشكك الذي يرجح أكثر ما يرجح، أخيرا، في كفة الأعراض. هل للتحفظ مبرر هنا؟ أجل، ما دام مدعو قصيدة النثر على جهل تام بها وإساءة إليها وإسفاف فيهم، يتصدرون الواجهة، وما دام لم ينقض على معرفتنا الجديدة بقصيدة النثر عامان، وما دام العطاء الحقيقي ضمنها، لا التقريبي والصدفي، لم يأخذ بعد طريقه إلى الناس. إننا نتحفظ لكن هل يحق لنا رفض الشيء قبل رؤيته؟ أليس انغلاقا على الذات وغرورا أحمق وموتا، أن نصرخ: "قصيدة النثر غير صالحة"و"قصيدة النثر ستموت" وليس بين يدينا نتاج للحكم؟ "الشعر" يقول قائل، هو الموسيقى كعنصر أول، والنثر خلو من الموسيقى التي يخلقها الوزن والقافية. موسيقى الوزن والقافية هي التي في الدرجة الأولى، تحث في القارئ الهزة الشعرية". لكن لا. موسيقى الوزن والقافية موسيقى خارجية، ثم أنها، مهما أمعنت في التعمق، تبقى متصفة بهذه الصفة: إنها قالب صالح لشاعر كان يصلح لها. وكان في عالم يناسبها ويناسبه. لقد ظلت هذه الموسيقى كما هي ولكن في عالم تغير، لإنسان تغير ولإحساس جديد. حتى في الزمان الذي كان زمانها، لم تكن موسيقى الوزن والقافية وحدها ولا أهم ما يزلزل القارئ. وقارئ اليوم لم يعد يجد نفسه في هذه الزلزلة السطحية الخداعة لطبلة أذنه. ثم إن الشاعر يأتي قبل القارئ، لأن العالم المقصود هو من صنعه. والشاعر أعلم بأدواته، والشاعر الحقيقي لا يفضل الارتياح إلى أدوات جاهزة وبالية، تكفيه مؤونة النفض والبحث والخلق، على مشقة ذلك. والشاعر الحقيقي، اليوم، لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون محافظا. إن معارضة التقدم عند المحافظين ردة فعل المطمئن إلى الشيء الجاهز، والمرتعب من الشيء المجهول المصير. التقدم، لمن ليس مؤمنا بما يفعل، مجازفة خرقاء، وهكذا يبدو للمقلدين والراكدين. وبين المجازفة والمحافظة لا يترددون، فيحتمون بالماضي ويسحبون جميع الأسلحة من التعصب إلى الهزء إلى صليبية المنطق التاريخي، بل إلى صليبية منطق تاريخي زوروه بمقتضى سفينتهم، فلم يروا في تاريخ الشعر غير ما يؤيد رجعتهم ويحك العواطف القشرية للجماهير، وجعلوا يستخدمون المنطق- منطق اللغة والتراكم الأدبي وحاجات الشعوب العربية وظروفها السياسية والاجتماعية والروحية- وفقا لما يدعم نظرتهم المبتسرة إلى الأشياء إرادتهم البقاء حيث هم، وإنقاذا لأنفسهم من عجلات النهضة.
أي نهضة؟ نهضة العقل، الحس، الوجدان. ألف عام من الضغط، ألف عام ونحن عبيد وجهلاء وسطحيون. لكي يتم لنا خلاص علينا- يا للواجب المسكر!- أن نقف أمام هذا السد، ونبجه.
بين القارئ الرجعي والشاعر الرجعي حلف مصيري. هناك إنسان عربي غالب يرفض النهض والتحرر النفسي والفكري من الإهتراء والعفن، وإنسان عربي أقلية يرفض الرجعة والخمول والتعصب الديني والعنصري، ويجد نفسه بين محيطيه غريبا، مقاتلا، ضحية الإرهاب وسيطرة الجهل وغوغائية "النخبة" والرعاع على السواء. لدى هذا التشبث بالتراث "الرسمي" ووسط نار الرجعة المندلعة، الصارخة، الضاربة في البلاد العربية والمدارس العربية والكتاب العرب، أمام أمواج السم التي تغرق كل محاولة خروج، وتكسر كل محاولة لكسر هذه الأطواق العريقة لجذور في السخف، أمام بعث روح التعصب والانغلاق بعثا منظما شاملا، هل يمكن محاولة أدبية طرية أن تتنفس؟ إنني أجيب: كلا، إن أمام هذه المحاولة مكانين، فأما الاختناق أو الجنون. بالجنون ينتصر المتمرد ويفسح المجال لصوته كي يسمع. ينبغي أن يقف في الشارع ويشتم بصوت عال، يلعن، وينبئ. هذه البلاد، وكل بلاد متعصبة لرجعتها وجهلها، لا تقاوم إلا بالجنون. حتى تقف أي محاولة انتفاضية في وجه الذين يقاتلونها بأسلحة سياسية وعنصرية ومذهبية، وفي وجه العبيد بالغريزة والعادة، لا تجدي غير الصراحة المطلقة، ونهب المسافات، والتعزيل المحموم، الهسترة المستميتة. على المحاولين، ليبجوا الألف عام، الهدم والهدم والهدم، إثارة الفضيحة والغضب والحقد؛ وقد يتعرضون للاغتيال، لكنهم يكونون قد لفظوا حقيقتهم على هذه القوافل التي تعيش لتتوارث الانحطاط، وها هي اليوم تطمح إلى تكريس الانحطاط وتمليكه على العالم.
أول الواجبات التدمير. الخلق الشعري الصافي سيتعطل أمره في هذا الجو العاصف، لكن لا بد. حتى يستريح لمتمرد إلى الخلق، لا يمكنه أن يقطن بركانا، سوف يضيع وقتا كثيرا، لكن التخريب حيوي ومقدس.
هل يمكن أن نخرج من النثر قصيدة؟ أجل، فالنظم ليس هو الفرق الحقيقي بين النثر والشعر. لقد قدمت جميع التراثات الحية شعرا عظيما في النثر، ولا تزال. وما دام الشعر لا يعرف بالوزن والقافية، فليس ما يمنع أن يتألف من النثر شعر، ومن شعر النثر قصيدة نثر.
لكن هذا لا يعني أن الشعر المنثور والنثر الشعري هما قصيدة نثر، إلا أنهما- والنثر الشعري الموقع على وجه الحصر- عنصر أولي في ما يسمى قصيدة النثر الغنائية. ففي هذه لا غنى عن النثر الموقع.
إلا أن قصيدة النثر ليست غنائية فحسب، بل هناك قصيدة نثر "تشبه" الحكاية، وقصائد نثر "عادية" بلا إيقاع كالذي نسمعه في نشيد الإنشاد (وهو نثر شعري) أو في قصائد شاعر كسان جون برس.
وهذه تستعيض عن التوقيع بالكيان الواحد المغلق، الرؤيا التي تحمل أو عمق التجربة الفذة، أي بالإشعاع الذي يرسل من جوانب الدائرة أو المربع الذي تستوي القصيدة ضمنه، لا من كل جملة على حدة وكل عبارة على حدة أو من التقاء الكلمات الحلوة الساطعة ببعضها البعض الآخر فقط. ولعلك إذا قرأت قصيدة من هذا النوع (هنري ميشو، انتونان أرتو..) قراءة لفظية، جهرية، للالتذاذ والترنح، لعلك تطفر وتكفر بالشعر لأنك ربما لا تجد شيئا من السحر أو الطرب.
التأثير الذي تبحث عنه ينتظرك عندما تكتمل فيك القصيدة، فهي وحدة، ووحدة متماسكة لا شقوق بين أضلاعها، وتأثيرها يقع ككل لا كأجزاء، لا كأبيات وألفاظ. ومن هنا ما قاله إدغار ألن بو عن القصيدة (أي قصيدة) إذا أنكر عليها أن تكون طويلة. إن كل قصيدة هي بالضرورة قصيرة، لأن التطويل يفقدها وحدتها العضوية. وهذا ينطبق أكثر ما ينطبق في النثر، لأن قصيدة النثر أكثر من قصيدة الوزن حاجة إلى التماسك، وإلا تعرضت للرجوع إلى مصدرها، النثر، والدخول في أبوابه من مقالة وقصة ورواية وخاطرة..
لكن هل من المعقول أن نبني على النثر قصيدة ولا نستخدم أدوات النثر؟ الجواب أن قصيدة النثر قد تلجأ إلى أدوات "النثر من سرد واستطراد ووصف لكن، كما تقول سوزان برنار، " شرط أن ترفع منها وتجعلها "تعمل" في مجموع ولغايات شعرية ليس إلا" وهذا يعني أن السرد والوصف يفقدان في قصيدة النثر غايتهما الزمنية، يبطلان أدوات الروائي والخطيب والناقد توصلهم عبر تسلسل من الآراء والحجج إلى هدف واضح ومعين، إلى الحسم في شيء.
هنا العناصر النثرية تدخل في "كتلة لا زمنية" هي قصيدة النثر، وتغدو مجردة من وظائفها السابقة.
كل هذا بحاجة إلى تفصيل وتحديد أوضح لا يتسع لهما المجال. النثر وارتفاع مستواه كان، عندنا، التمهيد المباشر، ومما ساعد أيضا ضعف الشعر التقليدي وانحطاطه والإحساس بعالم متغير يفرض موقفا آخر، الموقف الذي يفرض الشكل على الشاعر. ثم هناك الوزن الحر، القائم على مبدأ التفعيلة لا البيت، الذي عمل منذ عشر سنين على زيادة تقريب الشعر من النثر. ونلاحظ هذه الظاهرة بقوة عند جميع الشعراء العرب الشيوعيين، والواقعيين، الذين اقتربوا من النثر لا في أسلوبهم ولغتهم فحسب بل في الجو والأداء، بينما نلاحظ عند فئة أخرى هي فئة شعراء "المستوى" اقترابا من النثر من حيث تبسيط الجملة والتركيب والمفردة، وتبقى التجربة أو الموقف في "عصمتهما" الفنية الصعبة.
هذه العوامل وسواها كالترجمات عن الشعر الغربي خاصة، جعلت بزوغ النوع الجديد ممهدا بعض الشيء، على صعيد الشكل بالأقل، وإن لم تتهيأ له الذواق حتى الآن التهيؤ الطبيعي.
يحتاج توضيح ماهية قصيدة النثر إلى مجال ليس متوافرا. وإنني استعير بتلخيص كلي هذا التحديد من أحدث كتاب في الموضوع بعنوان "قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا" للكاتبة الفرنسية سوزان برنار.
لتكون قصيدة النثر قصيدة نثر، أي قصيدة حقا لا قطعة نثر فنية أو محملة بالشعر، شروط ثلاثة: الإيجار (أو الاختصار) التوهج، والمجانية. فالقصيدة، أي قصيدة، كما رأينا، لا يمكن أن تكون طويلة، وما الأشياء الأخرى الزائدة، كما يقول بو، سوى مجموعة من المتناقضات. يجب أن تكون قصيدة النثر قصيرة لتوفر عنصر الأشراق، ونتيجة التأثير الكلي المنبعث من وحدة عضوية راسخة، وهذه الوحدة العضوية تفقد لازمنيتها إن هي زحفت إلى نقطة معينة تبتغي بلوغها أو البرهنة عليها. إن قصيدة النثر عالم "بلا مقابل".
وفي كل قصيدة نثر تلتقي معا دفعة فوضوية هدامة، وقوة تنظيم هندسي. لقد نشأت قصيدة النثر انتفاضا على الصرامة والقيد، أليست هي وحتى الآن تلك التي طالب بها رمبو حين أراد "العثور على لغة (…) تختصر كل شيء، العطور، الأصوات، والألوان"، وبودلير، عندما قال أنه من الضروري استعمال شكل "مرن ومتلاطم بحيث يتوافق وتحركات النفس الغنائية، وتموجات الحلم، وانتفاضات الوجدان" إنها الرفض والتفتيش، تهدم وتنسف الغلاف، القناع، والغل. انتفاضة فنية ووجدانية معا، أو إذا صح، فيزيقية وميتافيزيقة معا. لكن هذه الفوضوية كانت لتبقى بجناح واحد عند رمبو لو لم يعطها الجناح الآخر: الهيكل. ومن الجمع بين الفوضوية لجهة والتنظيم الفني لجهة أخرى، من الوحدة بين النقيضين تنفجر ديناميكية قصيدة النثر الخاصة. هذه الملامح تسمح لا بتبين النوع الجديد فحسب بل كذلك بتجنب ما ليس قصيدة نثر. على أن ثمة وجوها نسبية ظهرت وتظهر متبدلة وفقا للتطور، وهذا التبدل هو من ضمن ما توفره قصيدة النثر من حرية شاسعة وإمكانات لا تنحصر في عمل الخلق وطلب اللانهائي والمطلق.
لا نهرب من القوالب الجاهزة لنجهز قوالب أخرى ولا ننعى التصنيف الجامد لنقع بدورنا فيه. كل مرادنا إعطاء قصيدة النثر ما تستحق: صفة النوع المستقل. فكما أن هناك رواية، وحكاية، وقصيدة وزن تقليدي، وقصيدة وزن حر، هناك قصيدة نثر. لا نريد ولا يمكن أن نقيد قصيدة النثر بتحديدات محنطة. أن أهميتها لا بالقياس إلى الأنظمة المحافظة في الشعر وحسب بل بالقياس إلى أخواتها من الانتفاضات الشعرية كالوزن الحر، إنها أرحب ما توصل إليه توق الشاعر الحديث على صعيد التكنيك وعلى صعيد الفحوى في آن واحد.
لقد خذلت كل ما لا يعني الشاعر، واستغنت عن المظاهر والإنهماكات الثانوية والسطحية والمضيعة لقوة القصيدة. رفضت ما يحول الشاعر عن شعره لتضع الشاعر أمام تجربته مسؤولا وحده وكل المسؤولية عن عطائه، فلم يبق في وسعه التذرع بقساوة النظم وتحكم القافية واستبدادها، ولا بأي حجة برانية مفروضة عليه. ومن هنا ما ندعوه القانون الحر لقصيدة النثر. فعناصر الإيجاز والتوهج والمجانية ليست قوانين سلبية، بمعنى أنها ليست للإعجاز ولا قوالب جاهزة تفرغ فيها أي تفاهة فتعطي قصيدة نثر. لا إنها الإطار أو الخطوط العامة للأعمق والأساسي: موهبة الشاعر، تجربته الداخلية وموقفه من العالم والإنسان. وهذه "القوانين" نابعة، كما يخيل إلي من نفس الشاعر ذاته. لقد استخلصت من تجارب الذين أبدعوا قصائد نثر، ورؤي، بعد كل شيء، إنها عناصر "ملازمة" لكل قصيدة نثر نجحت، وليست عناصر مخترعة لقصيدة النثر كي تنجح.
لكن حتى هذا الانسجام بين الشروط والشاعر ليس نهائيا. ليس في الشعر ما هو نهائي. وما دام صنيع الشاعر خاضعا أبدا لتجربة الشاعر الداخلية فمن المستحيل الاعتقاد بأن شروطا ما أو قوانين ما أو حتى أسسا شكلية ما، هي شروط وقوانين وأسس خالدة، مهما يكن نصيبها من الرحابة والجمال. القاعدة القديمة: العالم لا يتغير، باطلة. ومثلها جميع المواضعات المتعلقة بالإنسان. الشاعر ذو موقف من العالم. والشاعر في عالم متغير، يضطر إلى لغة جديدة تستوعب موقفه الجديد. لغة "تختصر كل شيء" وتسايره في وثبة الخارق الوصف إلى المطلق أو المجهول. أقل عقدة شكلية تعطل انطلاقه وتحرف وجهته. أبسط هم خارجي يسرق من وحدة انصبابه على الجوهر.
وأخطر من ذلك كل العقد والسنن حين تكون جاهزة، وذات تراث طويل، أي ذات قوة أقدر على إيقاع الشاعر في حبائلها بما لها من إغراء (إغراء الراحة) ومن سلطان (سلطان التراث الطويل). وهذا ما يحدث للشاعر العربي مع الوزن والقافية وشعره القديم، وقطع هذه المرحلة يقتضي جهدا فائقا لا من أجل الرفض النظري لها فقط بل كذلك النجاح في التخلص من رواسيها، ورواسبها شكلية وضمنية. وإذ يجتاز الشاعر عقبة العالم الميت يفر من الأقماط. غير أن أبواب الشعر الصافي، عالمه الجديد الذي عاد إليه، لا تنفتح أمامه ما لم يحسن مخاطبتها، أو هي، إذا انفتحت، لا بد للشاعر أن يضيع في الداخل ما لم يكن يعرف تبين عالمه وبلورته. اللغة.. أنه في حاجة دائمة إلى خلق دائم لها. لغة الشاعر تجهل الاستقرار لأن عالمه كتلة طليعية.أجل في كل شاعر مخترع لغة. وقصيدة النثر هي اللغة الأخيرة في سلم طموحه، لكنها ليست باتة. سوف يظل يخترعها. ما يسمونه الأزمنة الحديثة هو انفصال عن زمن العافية والانسجام. إنه تكملة السعي الذي بدأ منذ قرن لا من أجل تحرير الشعر وحده بل أولا لتحرير الشاعر. الشاعر الحر هو النبي، العراف، والإله. الشاعر الحر مطلق، ولغة الشاعر الحر يجب أن تظل تلحقه. لتستطيع أن تواكبه عليها بالموت والحياة كل لحظة، الشاعر لا ينام على لغة.
شاعر قصيدة النثر شاعر حر، وبمقدار ما يكون إنسانا حرا، أيضا تعظم حاجته إلى اختراع متواصل للغة تحيط به، ترافق جريه، تلتقط فكره الهائل التشوش والنظام معا. ليس للشعر لسان جاهز، ليس لقصيدة النثر قانون أبدي.
نكتب لتقطع مرحلة، وما نكتبه يطوى، يحرق، ما لم نكتبه ولم نعرفه ولم نغص بعد فيه، هو الهم.
يجب أن أقول أيضا إن قصيدة النثر- وهذا إيمان شخصي قد يبدو اعتباطيا- عمل شاعر ملعون. الملعون في جسده ووجدانه الملعون يضيق بعالم نقي. إنه لا يضطجع على أرث الماضي. إنه غاز. وحاجته إلى الحرية تفوق حاجة أي كان إلى الحرية. إنه يستبيح كل المحرمات ليتحرر. لكن قصيدة "النثر" التي هي نتاج ملاعين، لا تنحصر بهم. أهميتها أنها تتسع لجميع الآخرين، بين مبارك ومعافى. الجميع يعبرون على ظهر ملعون.
نحن في زمن السرطان. هذا ما أقوله ويضحك الجميع. نحن في زمن السرطان: هنا، وفي الداخل. الفن إما يجاري أو يموت. لقد جارى والمصابون هم الذين خلقوا عالم الشعر الجديد: حين نقول رمبو نشير إلى عائلة من المرضى. قصيدة "النثر بنت هذه العائلة.
نحن في زمن السرطان: نثرا وشعرا وكل شيء. قصيدة النثر خليقة هذا الزمن، حليفته، ومصيره.
خريف 1960