نجتاز الحدود من «كردستان العراق» إلى شمال سوريا فوق جسر حديدي عائم تتلاعب به ترددات فيضان نهر دجلة، الجسر أميركي الصنع على الأرجح، والدخول «غير الشرعي» إلى سوريا يستلزم «إذن خروج» من «بيشمركة (مسعود) البارازاني» في فيشخابور ويتبعه «فيزا» دخول من «قوات سوريا الديموقراطية» في سيمالكا. «‎كيف كانت معاملتهم لكم؟»، يبادر مسؤول «الأسايش» (جهاز الأمن) بالسؤال، مشيراً بيده إلى الضفة العراقية من دجلة.‎عبد الله أوجلان هنا، يتوسط صور قتلى «وحدات حماية الشعب» بشقّيها الرجالي (YPG) والنسائي (YPJ). هنا تعلو صوره الجبال، أما مقولاته الأيديولوجية عن الثورة والمرأة والفن والرياضة، فتملأ الشوارع والجدران والحواجز. وتنتشر الأعلام حاملة صوره في الأسواق والمحالّ، وتوزَّع على الناس مجلات ونشرات دورية تتضمن مقالات «آبو» كما يحلو لأنصاره مناداته. نسأل ما علاقة أوجلان بحزب «الاتحاد الديموقراطي»؟ فيأتي الجواب بأنه «التوأم السوري لحزب العمال الكردستاني التركي (PKK)».
‎هنا خليطٌ غريب، سيطرة وحواجز مسلحة لـ«قسد» وتنسيقٌ مع القوات الأميركية، وهنا أيضاً مناطق وأحياء ومطارات عسكرية ومدنية تحت سيطرة الدولة السورية، ودوائر رسمية وتماثيل للرئيس الراحل حافظ الأسد تمر من أمامها دوريات مشتركة لـ«قسد» وللأميركيين. حتى رجال الشرطة في القامشلي تابعون للحكومة، تتداخل مصالح محلية بين الدولة و«قسد»: كهرباء مقابل النفط، وحبوب مقابل الطحين، ومواد غذائية مقابل الخضروات والفاكهة. «وزير» في «الإدارة الذاتية» يوضح: «حضور النظام هنا شكلي، السيطرة لنا، لكننا لا نرى الجيش السوري عدواً، وأقصى طموحنا السياسي قيام نظام لامركزي في سوريا يعطينا حقوقنا كأقلية كردية، وخصوصاً بعدما حررنا مناطقنا من إرهاب داعش، وقدّمنا 11 ألف شهيد... فتحنا حواراً مع الدولة، لكنها تماطل بضغط روسي أحياناً يدخل في إطار كباش الروس مع الأميركان. لا ننادي بالانفصال، نريد استقلالية محلية لكن تحت سقف الدولة».
تصوير علي حشيشو

«العدو تركيا... لا النظام»
‎في القامشلي والحسكة لافتات تحريض ضد تركيا: «قاطعوا البضائع التركية»، و«تركيا شريكة الإرهابيين في قتل أطفالنا وتدمير قرانا». صحافي كردي سوري يعمل لقناة غربية يقول: «كل مصيبتنا صناعة تركية، هم من أدخلوا داعش وجبهة النصرة إلى مناطقنا، فارتكبوا المجازر تحت أنظار الأتراك ومباركتهم، وهم من سلّح شبيحة الجيش الحر الذين نهبوا مناطقنا». وعندما تضعه أمام مفاضلة، لا يتردد بالقول: «النظام السوري ظلمنا في حقوقنا السياسية، لكنّ زعران تركيا ذبحونا، لا مجال للمقارنة بينهما؛ أنا اليوم إذا قررت تركيا اجتياح منطقتنا، فسأهرب أنا وعائلتي إلى مناطق النظام، بينما لو قرر النظام إعادة فرض سيطرته على مناطقنا، فسأترك عائلتي وأهرب وأعود بعد تسوية وضعي كوني مطلوباً للخدمة العسكرية». مع ذلك، تغرق الأسواق بمواد غذائية تركية مهربة من «كردستان العراق». حتى السيارات و«الفانات» تأتي من هناك بنصف سعرها في السوق السورية لأنها لا تخضع للجمارك.

بحيرات النفط «السائب»
تعوم الحسكة فوق آبار من النفط؛ وسط السهوب الخضراء، تنتصب شعلات النار دائمة الاتقاد بين مئات المضخات المتناثرة التي تنتصب وتنحني في حركة ميكانيكية خارقةً هدوء الطبيعة، ليتدفق النفط الخام إلى برك مكشوفة تحت إدارة «قسد» ظاهراً، لكن ليس بعيداً عن الأصابع الأميركية. إلى تلك البرك، تأتي مئات الصهاريج الضخمة (منها تابعة لوسطاء من مناطق الحكومة السورية) لتغرف آلاف البراميل وتعود بها إلى منشآت التكرير في حمص، بعد دفع ثمنها لـ«قسد» أو مقايضتها معها.
تصوير علي حشيشو

قدّاس الجمعة والخوري عُمر!
في عين العرب (كوباني)، ظاهرة التحول من الإسلام إلى المسيحية لافتة، وهو ما استدعى استحداث كنيسة «الأخوّة» البروتستانتية في بناية سكنية قرب السوق جُهزت على عجل بمذبح ونسخ من الإنجيل وتماثيل السيدة العذراء. المؤمنون «الجدد» بالمسيحية يؤمّون الكنيسة صباح كل جمعة (يوم العطلة الرسمية) لإقامة ما اصطلح على تسميته مسيحياً قدّاس الأحد. مؤسس الكنيسة وقسّها المدعوّ عُمر يشرح: «بسبب انهماك المؤمنين في دواماتهم الوظيفية أيام الأحد، ولكون الجمعة يوم العطلة الرسمية، نقيم قدّاسنا الجمعة. وهذا لا يؤثر في مشروعية هذه القداديس لاهوتياً».
الوجود العسكري الأميركي يكاد يكون غير مرئي، لكن تأثيره حاضر في الخطط الأمنية


الحركة التبشيرية في المدينة كان بطلها القس الأميركي آندرو برونسون الذي سبّب أزمة دبلوماسية بين واشنطن وأنقرة، بعدما اعتقلته أجهزة الأمن التركية عام 2016 بتهمة التجسس لمصلحة أوجلان وفتح الله غولن، قبل أن تضطر إلى إطلاقه إثر ضغوط أميركية! يقول أحد المنتقلين إلى المسيحية إنه التقى برونسون على الحدود مع تركيا أكثر من مرة، واستمع الى تعاليمه المسيحية؛ وبعد اعتقال القس الأميركي، جاءه اتصال من داخل تركيا، تأكد لاحقاً أنه من الاستخبارات التركية، دُعي خلاله للحضور إلى تركيا لتسلم أموال موضوعة باسمه هناك في حساب بنكي، فارتاب من الأمر ورفض، ولا سيّما أنه لا يملك أرصدة مالية في تركيا، قبل أن تتضح الأمور بعدما سأله المتصل عن اجتماعاته ببرونسون.

«I love Israel»
بينما يوضح عدد من المسلمين الأكراد المتحولين إلى المسيحية أنهم التقوا القس برونسون، يؤكد آخرون أن تغيير الدين صار سهلاً بعد سيطرة «قسد». وينفي الدكتور محمود (المتحول منذ 12 سنة) الانطباع السائد عن أن التحول جاء رد فعل من السكان المسلمين على جرائم «داعش» بحقهم باسم الدين الإسلامي. يقول: «إنني على ثقة بأن لا خلاص للأكراد إلا بالخروج من الإسلام إلى المسيحية، ليس حباً بالمسيحية، بل بالحضارة الغربية». لا تقف قناعات الطبيب المشهور هنا، فلقد دفعه انفعاله أمام طاقم صحافي أجنبي إلى النهوض من على كرسيه والتمني لو تمنحه «إسرائيل جنسيتها»، معلناً بصوت أعلى حبّه للكيان الصهيوني: «I love Israel»، قبل أن يستميح العذر من أحدهم (لبناني الجنسية)... «ومن حزب الله تبعك».

تصوير علي حشيشو

«الماركسية» وأميركا!
لعلّ اللغز الأكبر في «روج آفا» هو الغرام بين «الاتحاد الديموقراطي» الماركسيّ الأيديولوجيا، و«الإمبريالية الأميركية»، فالحزب تدرّب وتسلّح ونسّق أمنياً وعسكرياً مع قوات الاحتلال الأميركية المنتشرة في سوريا. ولأن الحزب يخضع لنظام «المركزية الديموقراطية» وتتسم علاقاته التنظيمية بانضباط صارم واحترام للتعليمات القيادية (يظهر جلياً في صفوف العسكر على الحواجز الأمنية)، يأتيك الجواب عن سر تلك العلاقة موحداً أكان من الرفيق المبتدئ أم من الكادر الأعلى، ومفاده: «وسط هذا الصراع الدولي، نحن بحاجة إلى دعم، لم نجد غير أميركا تقف إلى جانبنا، مع فهمنا للتناقضات ومعرفتنا بأن لكل دولة مصالح خاصة، فإننا لا نستطيع النضال دون سند»؛ إنه الجواب الحصري من حزب «الاتحاد».
مع أن الوجود العسكري الأميركي يكاد يكون غير مرئي، ما عدا دوريات مؤللة قد تلمحها في الحسكة أو في عين العرب، فإن تأثيره حاضر ويظهر في الخطط الأمنية التي تنفذها «قسد» وفي تنسيق العمليات القتالية، وآخرها في معركة الباغوز ضد «داعش»، حيث أدى الطيران الأميركي الدور الحاسم. لكن ما يُسجّل للحزب ماركسي المنبت أنه قطع أشواطاً كبيرة في مسألة تحرير المرأة وتحقيق المساواة مع الرجل، وأنزل تلك الأفكار من رفوف النظريات إلى حيّز التنفيذ، فالمرأة هنا تُرى في كل ميادين الحياة: العسكر والإدارة والمؤسسات؛ الأهم أنك لا تلمس في السلوك اليومي للسكان ذاك التفاوت أو التمييز الجنسي بينها وبين الرجل، وتشعر بأن الرجل ارتقى بنظرته للمرأة، فيغيب «التلطيش» في السوق والمطاعم وعند قيادة السيارة.
تصوير علي حشيشو

«داعش» يُبعث من جديد؟
هناك إشارتان لا تبشران بالخير حول المصير النهائي لـ«داعش»، فـ«قسد» التي تحتجز آلافاً من عناصره المستسلمين من الباغوز والرقة، في معتقل «روج»، تتخوف من خطورة الانتفاضات التي يشهدها المعتقل بما يجعله قنبلة موقوتة جاهزة للانفجار. آخر انتفاضة تمرد وقعت قبل شهرين وقد استنفرت «قوات مكافحة الإرهاب» لقمعها، وتردّد أن الأخيرة استنجدت بالأميركيين وطلبت تدخل مروحياتهم. وبناء عليه علّقت كل تصاريح الإعلاميين الأجانب والمحليين لمقابلة المعتقلين واستصراحهم.
الإشارة الثانية من مخيم الهول للنازحين ترسلها كلٌّ من اللبنانية أمل السوسي والسورية روان عبود، اللتين تتنبآن بـ«انبعاث جديد لدولة الخلافة» على أيدي «الداعشيات الأجنبيات» من أوروبا وشمال أفريقيا، وهنّ الأشرس، ولا يتحركن إلا تحت حراسة مشددة من مقاتلات «قسد». أمل وروان تشكيان سيطرة تلك النسوة على المخيم وقراره، وتتّهمهنّ باضطهاد وتكفير وتخوين كل مَن ينتقد «داعش».
لا يُفهم لماذا تحافظ «الداعشيات» الأجنبيات على إخلاصهن لـ«دولة الخلافة» حتى الآن


الهول بلدة في الحسكة تحوّلت إلى مخيم يؤوي نحو 75 ألف نازح معظمهم نساء وأطفال ممن استسلموا لـ«قسد». مخيم «أممي» بامتياز؛ الجلابيب السود والنُقُب التي ترتديها النسوة تُخفي تلك الأممية، لكنّ ملامح أطفال المخيم تكشفها عيونٌ صينية وأخرى زرقاء أوروبية وأنوف مفلطحة وسحنات شرق آسيوية وسَمار خليجي وسواد أفريقي. يوجد هنا عينات من 48 دولة من القارات الخمس؛ النساء أتين للالتحاق بـ«دولة الإسلام» فتزوّجن وأنجبن «جيشاً» من الأطفال تيتّم عدد كبير منه.
في «الهول» أهوال، فالمخيم تتفشى فيه الأمراض وتغيب النظافة ويفتقر إلى مقومات البقاء. المرضى بالمئات، وكذلك مصابو الحرب ومبتورو الأطراف، عدا مئات الأطفال الحديثي الولادة المصابين بسوء تغذية. العلاج الأولي يؤمّنه مستوصف تشرف عليه فرق «الهلال الأحمر العربي السوري» (الرسمي) و«الهلال الكردي»، و«الصليب الأحمر الدولي» و«منظمة الصحة العالمية» وجمعيات محلية. يشهد «الهول» وفيات دائمة ويجري دفن الجثث خارج المخيم دون حضور الأهل.

تصوير علي حشيشو

الخروج من «جهنّم»!
من بين عشرات الشاكيات، تلتقط أذنك صوتاً يتكلم بلكنة لبنانية، إنها أمل السوسي (20 عاماً من طرابلس) التي تزوجت في عمر الـ 12 بـ«داعشي» والتحقت به في سوريا، قبل أن يُقتل في الرقة. استسلمت مع ولديها لـ«قسد»، لكنها عادت وسُلّمت لـ«داعش» في عملية تبادل. أمل، التي من السهل ملاحظة الكحل على رموش جفنيها، كونها ترتدي نقاباً من النوع الذي يظهر العينين، تسبّ «داعش» وتتمنى فناءه؛ وتقول إن مَن أتى مجبراً إلى مناطق التنظيم يجب تركه ليعود إلى وطنه وأهله، وتطالب «دولتي اللبنانية واللواء عباس إبراهيم لإعادتي وطفليّ إلى لبنان ومحاكمتي وسجني في لبنان إذا كنت مذنبة، المهم يضهّروني من جهنم».
تعترف «قسد» بأن إمكاناتها متواضعة، وأنها لن تتمكن من الصمود طويلاً في توفير الرعاية لنزلاء «الهول»، وتناشد المجتمع الدولي لتحمل «مسؤولياته الأخلاقية»، وأولاها استعادة كل دولة رعاياها. كذلك تطالب «دول المنشأ» بتسلم حملة جنسياتها ومحاكمتهم على أراضيها، دون أن تلقى أي تجاوب. المقابلات مع المعتقلين «الدواعش» تذكّرنا بالعملاء اللحديين بعد تحرير الجنوب اللبناني؛ كلّهم يتملّصون من أي دور إرهابي لهم في الجرائم الوحشية للتنظيم. عبد الأحد الطاجيكي (28 عاماً) القادم من شوارع موسكو حيث عمل سائق تاكسي قبل أن تغريه فكرة دولة «الخلافة»، وصل الى سوريا عام 2014 عبر تركيا، ثم أُرسل إلى الموصل للتدريب، مع عشرات الآسيويين الآخرين. ويدّعي الرجل أن ظنّه خاب بـ«الدولة الإسلامية» وأنه لم يقاتل قطّ وحاول الهروب مراراً. عبد الأحد اليوم إلى جانب آلاف من أمثاله، نزيل معتقل «روج». أحضره عناصر استخبارات «قسد» إلى المقابلة مغمض العينين وهكذا أعادوه. لم ينسَ الرجل أن يوصي الصحافة بطمأنته بشأن زوجته الشيشانية التي تركها وهي حامل، وطفليه اللذين تركهما فريسة الجوع في الباغوز.
تصوير علي حشيشو

أما خديجة، فجاءت من تركمانستان للالتحاق بـ«داعش». تزوجت «داعشياً» قبل أن تترمل وتتزوج زميله، وأثناء هربها من «قسد» في الباغوز تلقت رصاصة في رأسها من قناصة الجيش السوري الموجود على الضفة الغربية للفرات، وهي الآن تخضع للعلاج في أحد مستشفيات الحسكة. أيضاً هنا «داعشية» أوكرانية تدعى كاترين تجاور خديجة في الغرفة، نخرت شظايا الصواريخ جسدها وقتلت زوجها المقاتل في معركة الباغوز. تقول إن مئات النساء والأطفال قتلوا بالغارات الجوية الأميركية التي أحرقت الخيام بساكنيها، وإن العشرات منهم ذهبوا لجلب الماء من النهر ولم يعودوا قط.
لا يُفهم لماذا تحافظ «الداعشيات» الأجنبيات على إخلاصهن لـ«دولة الخلافة» حتى وهنّ في شبه مخيم اعتقال، وبالأخص المتحدرات من شمال أفريقيا. تقسم سيدة، تدلّ لكنتها على أنها من تونس أو المغرب، أن «دولة الخلافة باقية وستتجدد»، وأن «الله سيبعث المدد لنا وسنعود للحكم باسم الشريعة وسنهزم كل الكفار».
انتهت الرحلة. الجسر الحديدي يناديك للعودة. حقائب المسافرين تسبقهم على ظهر «بيك آب» ونحن نلحق بها في الحافلة. وأنت وسط الجسر فوق نهر دجلة تتحسر على «بلاد العرب أوطاني»، فخلفك «روج آفا» وأمامك «كردستان البارازاني»، يربطهما جسر حديدي عائم، أميركي الصنع على الأرجح.