لندن | أعرب مقرر الأمم المتحدة الخاص لشؤون التعذيب نيلز ميلزير، عن قلقه الشديد بعدما تناهت الأخبار من داخل سجن بلمارش في العاصمة البريطانية، عن تردّي صحة جوليان أسانج الصحافي الأشهر في العالم ومؤسس موقع «ويكيليكس»، على نحو اضطرّت معه السلطات إلى إيداعه عيادة السجن. ولم تسمح حالته، يوم أول من أمس، بنقله إلى مقر المحكمة البريطانيّة ــ التي تنظر في طلب ترحيله إلى الولايات المتحدّة ــ أو حتى بالمثول أمامها عبر الكاميرات المغلقة، الأمر الذي دفع القاضية إلى تأجيل جلسة الاستماع إلى 12 حزيران/ يونيو المقبل.وقد شنّ ميلزير هجوماً لاذعاً على حملة وصفها بالمنظّمة لشيطنة أسانج، يقودها تحالف دوليّ تترأسه الولايات المتحدّة، وتشارك فيه جهات عديدة تنفيذية وتشريعية وقضائية، في كل من بريطانيا والسويد والإكوادور وأستراليا، من دون أدنى اكتراث بحقوق مزعومة للإنسان، لطالما تغنّت بها هذه الدول في المحافل العالمية.
ويقضي أسانج حكماً بالسجن لخمسين أسبوعاً، بتهمة كسر الكفالة والفرار إلى مقر سفارة الإكوادور في لندن عام 2012، بعدما تيقّن من أن السلطات الأميركية تريده حيّاً أو ميتاً. وكان أسانج يواجه طلباً لاستدعائه إلى السويد، لمواجهة اتهامات يعتقد على نطاق واسع أنّها ملفقة له باغتصاب سيدتين كانتا قد استضافتاه لعدة أيّام، في وقت سابق لدى زيارته استوكهولم.
ورغم أن القضايا القانونية المتعلّقة بتلك الاتهامات أسقطت في السويد، سارعت حكومة لندن إلى أسر أسانج ونقله مخفوراً من داخل مبنى السفارة الإكوادورية إلى مقر محكمة كانت منعقدة بانتظاره، أصدرت من فورها حكماً عليه بالسجن ــ غير مسبوق في قسوته ــ وذلك عشية إبلاغها رسمياً من قبل سلطات كويتو برفع الحماية الديبلوماسية عنه.
ويبدو أن الحلقات القانونية قد بدأت تضيق على الرجل، بعدما جدّد القضاء السويدي طلب استرداده إثر إعادة فتح دعوى الاغتصاب الموجهة ضدّه بناءً على طلب إحدى السيدتين المشتكيتين، في الوقت الذي وجه فيه المدّعون العامّون الأميركيون لائحة ادعاء جديدة ومطوّلة بحقه، ضمّت 17 اتهاماً وفق قانون للتجسس من الحرب العالمية الأولى، كان يُستخدم لترهيب دعاة السلام من معارضي انخراط الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى. وأضيفت هذه القائمة إلى التهم الحالية (باختراق أجهزة حواسيب الحكومة الفيديرالية الأميركية)، التي ينظر بها القضاء البريطاني. وبحسب الخبراء القانونيين، إن إدانة أسانج بتلك التهم الأميركية الجديدة تعني إمكان الحكم عليه بـ175 عاماً من السجن، أو حتى عقوبة الإعدام، في حال إضافة اتهامات أخرى لاحقاً.
لوحظ أن أسانج يفقد وزنه بنحو متسارع ويصاب بنوبات توتّر شديد


الخطوة الأميركية الأخيرة، تعني ببساطة مدّ سلطة الإمبراطورية لمحاكمة أي صحافي في أي مكان في العالم، إن لم يتوافق ما ينشره مع هوى السلطات الأميركية. فأسانج ليس مواطناً أميركياً، ولم يرتكب أي جرم على أراضي الولايات المتحدة، لكن معظم صحف العالم ووسائل إعلامه الكبرى تجاهلت هذه الخطوة التي تمثّل أفدح اعتداء على حريّات التعبير ومهنة الصحافة ككل، فيما ستفتح الباب مشرّعاً على إطلاق سابقة قانونية تبرّر صيد الصحافيين المعارضين من قبل الأنظمة الفاسدة.
ولم تثر هذه الخطوة قلق البرلمانيين في أيٍّ من الديموقراطيات الغربية، فغلب الصمت حتى على البرلمانيات الثلاث العاليات الصوت في الكونغرس الأميركي: أليكسندريا أوسكازيو ــ كورتيز، ورشيدة طالب، وإلهان عمر، بينما تطوّعت ستيلا كريسي، وهي نائبة بريطانية في مجلس العموم تمثّل حزب «العمّال» ــ يسار الوسط المعارض ــ لجمع تواقيع 70 من زملائها من مختلف الأحزاب، على رسالة تدعو وزير الداخلية البريطاني ــ الذي ينتمي إلى حزب «المحافظين» اليميني الحاكم ــ إلى الإسراع بالتعاون التام مع السلطات السويدية، في ما يتعلّق بتهم الاعتداء الجنسي الموجهة إلى أسانج، كي لا يظن أحد نفسه أنه فوق القانون ــ على حدّ تعبيرها.
مصادر «ويكيليكس» تقاطعت مع مصادر أخرى طبية وقانونية، لتنقل صورة مقلقة عن صحة الأسير المعتقل. فقد لوحظ أنه مصاب بالهزال، ويفقد وزنه بنحو متسارع، ويصاب بنوبات توتر شديد في أوقات متقاربة، إضافة إلى نوبات ألم حاد من أسنانه التي تحتاج إلى عناية عاجلة، ويعجز عن التركيز أو إجراء حديث طبيعي في الأوقات القليلة التي يتسنى لمحاميه لقاؤه فيها. وقد اعتبر ميلزير أن هذه أعراض تظهر تعرّض أسانج لمستويات تعذيب سيكولوجية تماثل تلك التي تعرّض لها المعتقلون في السجون السرية للاستخبارات الأميركية، وأنه قد يصاب قريباً بذبحة قلبية أو قد يكون مريضاً بالسرطان، من دون أن تتوافر له في عيادة سجن البلمارش اللندني، السيئ السمعة، أي من أدوات التشخيص الكافية. وميلزير كان قد عمل لعشرين عاماً مع منظمة الصليب الأحمر الدولي، وزار مئات السجناء في المعتقلات السرية، وأسرى الحروب، واطلع على أوضاعهم عن قرب.
وفضلاً عن ذلك، اعتبر خبراء آخرون ــ ومن بينهم دبلوماسي بريطاني سابق مطّلع على حالات تعذيب واسعة قامت بها بلاده ضد الأسرى والمعتقلين السياسيين ــ أن ما يجري يرقى، بالفعل، إلى حالة إعدام بطيء لرجل فرد تتآمر عليه مجموعة دول كبرى وسياسيون فاسدون، وقضاة مفتقدون للصدقيّة، وصحافيون أنذالٌ، بغرض تقديم درس لا يُنسى لكل من تسوّل له نفسه أن يخرج عن الخطوط الحمراء المرسومة.
إلى جانب الضغوط النفسية الكثيفة، والإهمال الطبيّ المتعمّد، تمنع السلطات البريطانية أسانج من الحصول على مواد للكتابة أو الوصول إلى أجهزة الكومبيوتر، ولا تسمح لمستشاريه القانونين بزيارته لوقت يكفي لتحضير دفاع فاعل في مواجهة جيوش المحامين والقانونيين الذين جنّدتهم الولايات المتحدة وبريطانيا والسويد لضمان إدانته. وقد اشتكى عديدون حاولوا زيارته بصفتهم الشخصية، من عقم إجراءات سلطات السجن، ما يعني عملياً عزله عن العالم الخارجي في زنزانة انفرادية. وعُلم أيضاً أن طاقم السفارة الإكوادورية في لندن، صادر كافة أوراقه الشخصية ومراسلاته وأغراضه وكمبيوتره المحمول، وسارعوا إلى دعوة أسيادهم الأميركيين للاطلاع عليها ــ وربما نُقلت بالفعل الآن إلى الولايات المتحدة.
ليس جوليان أسانج مجرّد سجين آخر. لقد كان هذا الشاب الذي قضى آخر سبع سنوات من عمره مسجوناً، الصحافي الوحيد في هذا الكوكب برمّته الذي تجرّأ على كشف موثّق وشامل لطرائق عمل الإمبراطورية الأميركية في قهر العالم، وقتل الشعوب ونهب مقدراتها، وذلك عندما نشر ملايين الوثائق السرية من مُراسلات الأجهزة الأميركية المختلفة ــ الخارجيّة والدفاع وغيرها ــ مجاناً في الفضاء السيبيري المفتوح للعموم. وهو طارد صحف العالم ومثقفيه لنشر تلك الوثائق على أوسع نطاق، فتجنّب أغلبها إغضاب السادة في البيت الأبيض، بينما اختار بعضها نشر مختارات قليلة، ومنها «ذي نيويورك تايمز» و«الأخبار» و«ذي غارديان» البريطانية. والأخيرة انقلبت عليه، وكشفت الرموز السرية للسلطات الأميركية، التي تعتمد الآن عليها بالذات، في بناء لوائح الاتهام بحقه.