يسأل كثيرون مِمّن لم يُتابعوا مباراة الأنصار والنجمة من على مدرجات ملعب المدينة الرياضيّة، إذا كانت الصور حقيقية. البعض يجزم بأن الشابين اللذين في الصورة (التضارب) اتفقا على أخذها بهذه الطريقة. هي واقعية لدرجةٍ لا تُصدّق، ليس للطريقة التي يضرب فيها أحدهما الآخر فحسب، بل لأن المشهد هذا على أرض ملعب كرة قدم. ما لا يظهر في هذا الإطار، عشرات الأفراد من قوى الأمن مِمّن يتابعون لعبةً أخرى، لم يحضروا لرؤيتها. سؤالٌ واحدٌ يُطرح هُنا ويلغي كل الأسئلة الأخرى: ماذا لو ذهبت الأمور الى أكثر من ذلك؟على المدخل الرئيسي لملعب المدينة يقف عددٌ من عناصر الجيش اللبناني لتفتيش الآلاف مِمّن حضروا لمشاهدة لقاء الأنصار والنجمة مساء الجمعة الفائت. يُبرز أحد الزملاء الصحافيين بطاقته، لكن عنصر الجيش لم يتعرّف إليه. هي المرة الأولى له. يُعطيها لزميله، والثاني يسمح بالدخول، لكن الـضابط يأمر بتراجع الجميع، صحافيين ومشجعين. يحاول الزميل أن يشرح له ضرورة الدخول قبل بداية اللقاء، لكن القائد يُصرّ على عدم مرور أي شخص قبل رسم الصفوف. باقٍ رُبع ساعةٍ على الصافرة الأولى، ولا يزال آلاف المشجعين خلف أسوار الملعب بانتظار الإشارة بالدخول. بدأ التدافع، وعناصر الجيش ملتزمون أوامر عدم مرور أي شخصٍ قبل التفتيش. أحد المشجعين يقول لصديقه أن يضع الولّاعة في يده ويرفعها لحظة يُفتّشوه، هكذا يمرّ دائماً. يرُدّ عليه: «إنسَ. صارت بالبوكسر».
إشكال كبير حصل داخل الملعب(عدنان الحاج علي)

الجميع في باحة الملعب. الصحافيون من جهة، والجماهير من جهةٍ أخرى. هذا ما هو مُتعارفٌ عليه، لكن ليس الليلة. المنصة الرئيسية مُغلقة وممنوعٌ على أحدٍ الولوج إليها. الحل بدخول الملعب من النفق، ذلك الذي تنتشر فيه رائحة النفايات. لا بأس بذلك، لهذا تُسمّى «مهنة المتاعب». من النفق إلى أرض الملعب حتّى الوصول إلى أحد الموظفين الاتحاديين. يطلب الأخير الخروج، فهذه ليس المنطقة المخصصة للمراسلين. موظّفٌ آخر يدلُّ على طريق الخروج، ليس من أرض الملعب إلى المنصة أو المدرجات، بل من الملعب كُلّه إلى الطريق العام. الدورة عينها تتكرر. إلى حاجز الجيش، فالتفتيش مجدداً، حتى الوصول إلى مدرج الدرجة الأولى حيث جلس الصحافيون مع المشجعين. لا بأس بذلك أيضاً، فالصحافي مُشجعٌ هو الآخر، أو على الأقل هذا ما يقوله الموظّف الاتحادي.
الموسم الذي سينتهي قريباً هو الأسوأ على الإطلاق في الألفية الجديدة


بدأت المباراة، ويبدو أن المدرجات لن تحشد عدداً كبيراً من الجمهورَين، كما هو متوقّع. الصورة عند بداية المباراة ليست كما هي بعد عشر دقائق على انطلاقها. الأعداد ازدادت بنحو لافت، فالعديد من المشجعين كانوا يمرّون بالدورة عينها في وقتٍ متأخّر.
الشوط الأول لم ينتهِ بعد، والأصوات علت من أسفل المدرج. قسمٌ من المشجعين تعارك مع القوى الأمنية التي كانت على المدرجات للمرة الأولى. فجأةً قُطِع السياج الفاصل بين مدرجين، وانسحب عناصر قوى الأمن إلى زاوية المنصّة الرئيسية. تلك نهاية الطريق، والمشجعون يلاحقونهم بالمقاعد والحجارة. لم ينتهِ الإشكال إلا مع الانسحاب التام للعناصر الأمنيين. هذا ليس مكانهم، ليس بالنسبة إلى الجمهور.

حصلت مصالحة يوم أمس بين الشابين في المدينة الرياضية(عدنان الحاج علي)

الدقائق تمرّ والمباراة أشرفت على النهاية. عشرات عبوات المياه تُرمى باتجاه القوى الأمنية على أرض الملعب. لكن مهلاً، ألم يكن التفتيش دقيقاً، وإدخال عبوات المياه قبل نزع أغطيتها إلى المدرجات ممنوعاً؟ ما لم يُحسب له حساب، أن توضع الحجارة داخل العبوات حتّى تُصبح أثقل، والوزن الأثقل يعني بُعداً بالمسافة عند الرمي. الأسلحة «من الملعب وفيه»، ولا داعي لإخفائها. الحجارة على أرض الملعب أكثر من عبوات المياه، وقوى الأمن تحمي نفسها من الشظايا.
ثمانية إلى عشرة أولاد قفزوا إلى أرض الملعب باتجاه الإشكال


خلال المباراة قفز المشجع الأوّل إلى أرض الملعب. لحق به أحد العناصر وأعاده إلى المدرجات. بعدها لحقه الثاني، فالثالث، والرابع. صار العدد كبيراً. كيف يفلت هؤلاء من قبضة القوى الأمنية؟ لأن العناصر أصبحوا بعيدين عن المدرجات بسبب القذف المستمر بالحجارة. الخامس أصبح على أرض الملعب أيضاً، لكن التعب نال من الدركي. بات يناديه ليعود إلى المدرج بدلاً من ملاحقته. فجأة قفز مُشجّعٌ من كُل مدرج والتقيا في وسط أرض الملعب. الأوّل يحمل علم الأنصار والثاني علم النجمة. لم يفز النجماوي. كان يريد أن يردَّ شيئاً من اعتبار فريقه الخاسر أيضاً، لكن الخطّة لم تنجح. سقط أرضاً، وانهالت عليه الضربات. أيسكت زملاؤه؟ طبعاً لا. من ثمانيةٍ إلى عشرة أولاد قفزوا إلى أرض الملعب باتجاه الإشكال، قبل أن ينسحبوا مع تقدّم القوى الأمنية.

(عدنان الحاج علي)

انتهى اللقاء. جمهور النجمة غاضب، ومشجعو الأنصار يحتفلون على مدرجهم. السلاح (مقاعد وحجارة) لا يزال بين الأيادي و«العدو» يقترب من مدخل المنصة الرئيسية. استعد، صوّب، اِرمِ. ليس مهماً أن تُصيب الهدف بقدر ما هو مهم أن تُنفّس عن الغضب. بعد الرماية شتيمة.
«المهزلة» كادت تنتهي. عناصر الأمن على أرض الملعب مستمرون بحماية أنفسهم من هجوم أقل من عشرة أولاد. الهيبة مفقودة، والواضح أن أمراً «من فوق» يقضي بعدم الاشتباك مع المشجعين. أضواء الملعب العالية باتت تخفت، لكن أعداد جماهير الأنصار على أرض الملعب تزداد للاحتفال مع اللاعبين. كيف نزل هؤلاء؟ سؤالٌ أيضاً لا جواب له.
هذا السيناريو واقعي بكل ما فيه من مشاهد، ويتكرر عند كل مباراةٍ كبيرة ضمن أي مسابقةٍ محليّة. يكاد يبدو للمتابع أن اللقاء يُلعب من دون إدارة اتحادية ولا تنظيمٍ من المسؤولين في الملعب. الفوضى موجودة في كل زاويةٍ من الملعب، والجميع يُساهم فيها. المشكلة بحدّ ذاتها أنّ هذه الأمور باتت اعتيادية. الشتائم تُقابلها غرامة مالية. شغب؟ إيقاف الجمهور لبعض المباريات. لكن لا حلول هُنا. بعون الله تسير اللعبة في لبنان.
(عدنان الحاج علي)

الجميع يتحمّل المسؤولية عمّا وصلت إليه كرة القدم اللبنانية، من وزارة الشباب والرياضة إلى الاتحاد فالأندية والجماهير حتّى القوى الأمنية أيضاً، وصولاً إلى الصحافة. والجميع أيضاً يُطالب بالحلول المعروفة سلفاً، لكنّ أحداً لا يعمل على تنفيذها. ومما لا شك فيه، أن الموسم الذي سينتهي قريباً هو الأسوأ على الإطلاق في الألفية الجديدة. أخطر ما وصلت إليه اللعبة، انعدام الاحترام. لا الأندية تحترم الاتحاد، ولا تحسب له أي حساب، ولا الجمهور يحترم القوى الأمنية وحرمة الملاعب، ولا الاحترام متبادل بين جميع الأطراف. وكل هذا السرد يُعيدنا إلى السؤال الأوّل: ماذا لو ذهبت الأمور الى أكثر من ذلك؟