«يا ريت عزرائيل أخد من عمري وأعطاك... يا الله، عوّض علينا سيّد متل هالسيّد...».بهذه العبارات كان أحد أبناء بلدة اللبوة يعبّر عن حزنه يوم تشييع السيد عباس الموسوي في البقاع. الرجل المسنّ توفي قبل فترة قصيرة، لكن صوته لا يزال يتردّد في آذان كلّ من سمعه، وبكى. وإلى اليوم، لا يزال كلّ من يستمع إلى سيرة السيد عباس الموسوي، أو يرويها، يبكي، إما تأثراً بمواقفه، وإما حزناً على خسارة لا تعوّض. كلّ من عرفه مرة، أو التقاه، لديه ما يرويه عنه، وهو الإنسان المتواضع الذي كان يضع الناس في رأس أولوياته، فيفكر في دعمهم وتعزيز صمودهم. حتى إن خطابه الأخير في جبشيت كان يدعو إلى الإنماء المتوازن، ومقاومة أمرين: الإهمال والاحتلال.

جبشيت، التي استشهد السيد عباس بعد مغادرته لها، إثر إحيائه ذكرى الشيخ راغب حرب فيها عام 1992، لم تكن محطة عابرة في حياته التي لم يتم فيها أربعين عاماً. فهو كان شديد التأثر بالشيخ. وقد حاول المشاركة في تشييعه يوم استشهاده في عام 1984، لكن الإجراءات الاسرائيلية حالت دون وصوله. وقد تشدّد الإسرائيليون لاحقاً، مطبّقين ما عرف باسم القبضة الحديدية على المنطقة، ما رأى فيه الموسوي «إشارات النصر» كما يروي الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عنه. وفي ذكرى استشهاد الشيخ راغب الأولى، وجّه حزب الله رسالته المفتوحة. أما الذكرى الثانية فجرى إحياؤها بتنفيذ عملية أسر الجنديين عام 1986، التي أشرف عليها الموسوي مباشرة، مخاطباً الشباب الذين قاموا بها بقوله: «اذكروا الله كثيراً... لستم ثلاثة عشر شخصاً، الله يعضد مسيرتكم... وعدوّكم جبان ويخاف».
يومها ردّت قوات الاحتلال باعتداء استمرّ ستة أيام بحثاً عن الجنديين، ووصلت إلى مشارف بلدة صريفا، حيث كان السيّد عباس موجوداً بوصفه مسؤول منطقة الجنوب. لم يوافق على مغادرة البلدة، رغم إصرار الشباب عليه، فجرى الاتصال بصديقه السيد حسن نصرالله الذي كان مسؤولاً عن منطقة بيروت، علّه يقنعه. توجّه الأخير إلى الجنوب، وبعد مباحثات طويلة استطاع إقناع الموسوي بالانتقال إلى القرية المجاورة «كرمى لك»، قال لنصرالله، «ولأنك عذّبت نفسك وأتيت من بيروت». يقول نصرالله «بيناتنا، هو كان يريد تثبيت الشباب، لكني كنت أعرف أيضاً أنه كان يرجو الشهادة».
كلّ من عرف الموسوي كان يكرّر هذه المقولة: «كان يحلم بالشهادة. لم يكن يحبّ الدنيا ولم تكن تعني له شيئاً». ومن كان قريباً منه أكثر، كان يعرف أنه لن يستشهد من دون زوجته، «وأكثر من مرة كان يقول في حضرة الشباب، لا تخافوا لن أستشهد، فالحاجة أم ياسر ليست معي».
لذلك، حزن كثيراً عندما انتخب أميناً عاماً لحزب الله في نيسان 1991. «قصة كبيرة» رافقت عملية الانتخاب هذه، إذ من المعروف يومها أن السيد عباس رفض تسلّم الأمانة العامة، وأصرّ على أن يتولاها السيّد حسن نصرالله، رغم أنه يصغره بنحو ست سنوات. فحصل صراع، وكان كلّ منهما يدفع بهذه الأمانة إلى الآخر، كما يروي مدير مكتب الموسوي آنذاك، ونصرالله حالياً، يوسف عباس. وفي هذا الإطار يروي نصرالله، في فيلم وثائقي عن الموسوي، أن الأخير كان حزيناً يوم انتخابه الذي لم يحصل إلا بعد أسبوع من محاولات إقناعه. ويذكر عباس أنه عندما عقدت أول جلسة، دخل الموسوي إلى قاعة الاجتماعات فوجد على الطاولات مختلف أنواع الفاكهة والبزورات. غضب، وطلب رفعها. لم يكن السيد حسن نصرالله قد التحق بالاجتماع، لكنه فهم الموضوع فور دخوله، فقال له ممازحاً: «اترك لنا الفستق فقط».
رغم عدم وجود الرغبة في تولّي هذه المسؤولية، لأن الموسوي كان يحبّ البقاء مع المقاومين واعداً بمساعدة كلّ من سيتولى المهمة، تصدّى لها وأنجز خلال ولايته الكثير من المهمات. فهي مثّلت مفصلاً، أنهى خلاله الاقتتال الداخلي، «وكانت أكثر فترة انفتاح فيها على الآخر» يقول نجله ياسر، فيما يروي نصرالله أنه «أسّس للكثير من العلاقات السياسية التي لم تكن قائمة قبل تولّيه المهمات».
وفي هذا الإطار، يذكّر ياسر الموسوي بعملية للمقاومة شاركت فيها «قوات الفجر» مع المقاومة الإسلامية، وأدّت إلى أسر ملالة للعدو. هذا عدا عن دوره في ولادة ائتلاف الفصائل الفلسطينية العشرة.
ورغم هذه المهمات، لم يغب الناس عن بال السيد عباس، فخصّص وقتاً لاستقبالهم كلّ خميس في بيروت، وكلّ جمعة في النبي شيت، كذلك كان يزورهم في مناطقهم ويستمع إلى شكاويهم. ويروي الباحث موسى قصير أنه استقبل مرة أحد الاشخاص الذين يحتاجون إلى جهاز في القدم. سأل عن الكلفة، فقالوا له: ألفا دولار. عندها طلب السائق وهمس له بأمر ما. وبعد وقت عاد السائق وهو يحمل المبلغ، ليتبيّن أنه طلب بيع سيارته الخاصة. فمن المعروف عنه أنه لم يكن يملك شيئاً. حتى أثاث منزله كان مستعداً لتقديمه. ويروي أكثر من شخص كيف وهب صالون منزله لأحد المقاومين الذي كان يريد الزواج لكنه لم ينته من تأثيث منزله بعد. أما زوجته أم ياسر، فقد وهبت سجاد منزلها لامرأة كانت تشكو برد الشتاء.
لذلك، كانت حياة العائلة أقلّ من عادية. يذكر ياسر أنه عاد مرة من دورة عسكرية، فسألته والدته إن كان يحمل المال «لأن أبي كان قد أعطاني 10 آلاف ليرة قبل ذهابي وأنفقتها. عندها أعطتني ألف ليرة وقالت انزل إلى السوق واشتر بها شيئاً». وقف ياسر أمام سوق الخضر الشعبي محتاراً، فما الذي يمكن شراؤه بألف ليرة؟ بعد تفكير، تقدّم من بائع على عربة خضر، وطلب منه أن يعطيه باذنجان وبطاطا بقيمة الألف. نظر إليه البائع، أخذ منه المال، وملأ له كيساً كبيراً تتجاوز قيمة ما فيه المبلغ البسيط الذي دفعه. وعندما عاد إلى البيت، سألته أمه من أين له المال حتى عاد بهذا الكيس المليء، فأخبرها بما حصل. صمتت، وأعدّت الطعام. ويضحك ياسر وهو يتذكر كيف عرّفهم والده إلى «أطيب سندويش». يومها جمعهم، وصنع أمامهم سندويش لا تحتوي إلا على زيت الزيتون والملح، «وكنا نأكلها بنهم، ونقول للآخرين إنها الأطيب».
مدير مكتبه يوسف عباس تعرّف إليه عندما كلّف تأسيس مكتب له في بيروت. ويرى أن الميزة الاساسية للسيّد عباس هي محبة الناس، «التي تحققت لأنه اتخذ من النبي محمد قدوة حسنة. النبي الذي وصفه الله بقوله: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم».
يقدّم عباس الكثير من الأمثلة التي تدلّ على أخلاقيات الموسوي، وإحساسه العالي بالناس. في أحد الأيام، جاء رجل إلى المكتب وطلب لقاء السيّد عباس، وكان قد أصبح أميناً عاماً للحزب. ولما كان الموسوي في اجتماع، طلب منه مدير المكتب الانتظار. لكن الاجتماع طال أكثر من أربع ساعات. عندها، خرج الرجل بعدما قال كلاماً قاسياً. بعد انتهاء الاجتماع، نقل للسيّد ما حصل، خاتماً «وخرج من هنا زعلان». فقال «حسناً، جهّزوا السيارة ونذهب إلى بيته». قال له عباس: ولمَ تذهب أنت؟ اطلبه يأت. لكنه أصرّ على الذهاب بنفسه.
لم يكن عباس يفارق الموسوي. حتى إنه لم يكن يحصل على إجازات، رغم إصرار الموسوي عليه أن يفعل. فكان يبقى معه في البيت من الصباح حتى آخر ساعات الليل. وفي أحد الأيام، طلب منه أن يذهب إلى بيته. رفض، وقال له: لا أغادر إلا عندما تغادر. فقال: اذهب إلى بيتك، لأننا سوف نأتي لزيارتك، عائلتي وأنا». كان طلباً مفاجئاً «أنا لم أكن أفارقه ولا لحظة، لكنه زارني في منزلي، وبقي عندنا نحو ساعة».
أما في رحلته الأخيرة إلى جبشيت، فقد رافقه، لكن في سيارة أخرى، «ولا أزال إلى اليوم نادماً على هذه اللحظة لأني لم أكن إلى جانبه في السيارة». فقد فوجئنا ذلك الصباح بالسيدة أم ياسر ترافقه مع ابنهما حسين.
يومها، لاحظ الجميع الطائرات الاسرائيلية في الجو. وبرزت اقتراحات متعددة، منها نقله في سيارة إسعاف، أو تأجيل العودة إلى المساء. لكن السيّد عباس أصرّ على العودة بسبب ارتباطه بمواعيد بعد الصلاة مباشرة. فقرّر مسؤول الأمن سلوك طريق غير معتمدة، إذ لم يكن أحد يتوقع أن تحصل عملية الاغتيال بهذه الطريقة. كانوا يتوقعون حصول عملية خطف، التعرّض إلى كمين، عبوة، سيارة مفخخة، «فهذه كانت أول عملية اغتيال من الجو وبطائرات جديدة».
يوسف عباس هو أيضاً مدير أحد مكاتب السيد نصرالله. عندما نسأله عن أوجه الشبه بين الرجلين يقول: «كل إنسان عاش مرحلة من المراحل. يكفي أن يكون القائد يمتلك من الحكمة ليكون في كلّ مرحلة صح ويؤدي دوره كاملاً، وأعتقد أن الحكمة جامع مشترك بين السيد عباس والسيد حسن». وهذا ما يراه ياسر عباس الموسوي «نهج السيد عباس مستمرّ في سماحة السيّد نصرالله، بل ربما كانت قرارات السيّد عباس لتكون أقسى بعد في ما يتعلّق بحماية المقاومة».




«حسين المقاومة» طفل عزرائيل

عندما انتخب السيّد عباس الموسوي أميناً عاماً لحزب الله، بقي أكثر من أسبوعين في بيروت، لم يزر خلالهما البقاع. يومها اتصل به طفله حسين (الذي استشهد معه) وقال له: «شو مكبّر راس، صرت أمين عام وبطّلت تجي لعنا». ضحك والده، وسأل من في المنزل: «من منكم قال له هذا الكلام؟»، فأكدوا له أن أحداً لم يفعل، بل «لا أحد يجرؤ على ذلك».
يقول ياسر إن الشهيد حسين «كان أكثرنا جرأة على الوالد، وكان يعدّ الكثير من المقالب، وخصوصاً بالشباب الذين يرافقون السيّد». ويذكر أنه غافلهم مرة، وتسلل مع صديقه إلى مكتب والده، حيث كان يعقد اجتماعاً. اقتحم الغرفة، فسأله والده: ماذا تريد؟ فأجابه: هذا صديقي وهو يحبّ أن يتعرّف إليك، لذلك أتيت به. «لم يغضب السيّد، بل سلّم يومها على صديق أخي». الأخير لم ينس هذا الموقف الذي رواه قبل فترة قصيرة أمام ياسر قائلاً له: «أنا تعرّفت طفلاً إلى السيّد عباس وكان الشهيد حسين هو من عرّفني إليه». أما عندما كان يسأل عن اسمه، فكان يجيبهم «حسين المقاومة»، الاسم الذي أطلقه عليه والده عندما كان في الرابعة من عمره. يومها قال له «عندما ستكبر ستصبح مجاهداً، لذلك سأسمّّيك حسين المقاومة».
حسين، الطفل ابن الست سنوات، كان يكرّر أنه سيصبح شهيداً، يشفع للمؤمنين يوم القيامة. لكنه كان يؤكد لهم أنه سيختار من سيشفع لهم. «مرة قسمنا إلى بيض وسمر، ومرة راح يسمّي الذين سيشفع لهم، ويستثني الذين يغيظونه».
ويروى أنه اعترض مرة على مثال قدّمته معلمة الرياضيات في المدرسة، إذ سألتهم: يوجد معنا عشر تفاحات، أكلنا خمسة، فكم يبقى؟ فأجابها، السؤال لا يطرح بهذا الشكل. سألته كيف إذاً؟ فأجاب: «نقول: كان هناك عشرة إسرائيليين، قتلت منهم المقاومة خمسة، فيبقى خمسة، أنا سأقتلهم».