قبل ثلاث سنوات من اليوم، أعلن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، رؤيته الاقتصادية للتحول من اقتصاد ريعي تعيش المملكة في كنفه، على الأقلّ منذ الطفرة النفطية في سبعينيات القرن الماضي، إلى اقتصاد متنوع في عام 2030، تمهيداً لمرحلة ما بعد النفط، من خلال زيادة الاستثمار وتعزيز الإنتاجية. لكن إنتاج المملكة المحلي الفعلي، إذا استُثني منه إنتاج النفط الذي يستحوذ على 60 بالمئة منه، يُعدّ غير قابل للاستدامة، وفق ما يخلص إليه الاستشاري الخبير في الاقتصاد السعودي، والوكيل السابق لوزارة المالية والاقتصاد، عبد العزيز الدخيل، في كتابه الأخير «أزمة مالية في طور التكوين» الصادر عام 2016. يعني ذلك، أن تخفيف الاعتماد على النفط، وفق رؤية ابن سلمان، يجب أن يكون مصحوباً بإصلاحات عميقة في الاقتصاد، الذي اعتمد لعقود على إعادة توزيع الريع بدلاً من إنتاجه.تبدو «رؤية 2030» أشبه بدائرة حلزونية يقبع المواطن السعودي في وسطها. تدور وتدور لتحطّ أخيراً على عاتقه في دولة باتت تعتمد «الجباية» لتنويع مصادر دخلها، من دون أن توفر بيئة اقتصادية تحمي الشركات والمستثمرين والعمال وأرباب العمل. منذ ثلاث سنوات، تراوح رؤية «رجل الإصلاحات» في دوامة لم تعد خافية على الاقتصاديين، تبدأ من التعثر في تأمين مصادر التمويل، سواء ببيع 5 بالمئة من شركة «أرامكو» أو استقطاب مستثمرين أجانب أو عوائد استثمارات في شركات ومصارف عالمية، مروراً بتداعيات الإجراءات التقشفية القاسية، كرفع الدعم عن الوقود والكهرباء والخصخصة وفرض الضرائب وإلغاء الحوافز، وليس انتهاءً بارتفاع الدَّين العام ونفاد الاحتياط المالي للبلاد.
بالنظر إلى أهداف «الرؤية» ونتائجها اليوم، يبدو جلياً اقترابها من حافة الانهيار. فبدلاً من تقليل نسبة البطالة وجعلها تصل إلى 7 بالمئة، تفيد آخر الإحصاءات الرسمية بأنها وصلت إلى 12.7 بالمئة (كما في السودان)، علماً بأن الأرقام الرسمية لا تعكس الصورة الحقيقية تماماً. هذا المعطى يشير إلى فشل مشاريع عدة في إطار «الرؤية»، منها مشروع «السعودة». إذ تشير آخر الأرقام إلى أن الطاقة الاستيعابية للتوظيف في المملكة تبلغ 12.5 مليون وظيفة في مختلف المهن، لا يشغل السعوديون منها سوى 3.1 ملايين، بينما يستحوذ الأجانب على البقية، على رغم وجود أكثر من 6000 سعودي عاطل من العمل مِمَّن يحملون شهادات عليا، وقد يضاف إليهم أكثر من سبعة ملايين طالب وطالبة حالياً في الجامعات إن لم تنجح المملكة في «توطين» الوظائف سريعاً.
ومع أن نسبة البطالة تبدو قابلة للانخفاض، إلا أنها في سرعة ارتفاعها غير مألوفة في ثاني أغنى دولة في العالم، خصوصاً أنها تترافق مع أزمات عدة، كارتفاع نسبة الفقر إلى 12.3% (عام 2017)، فيما تحتل المملكة المرتبة الثامنة في قائمة الدول الـ10 الأكثر احتضاناً للمليارديرات. والجدير ذكره هنا أن نسبة الفقر هذه سبقت إجراءات رفع الدعم عن الطاقة (الوقود والكهرباء)، وانخفاض معدلات الرواتب (التي باتت بحسب «المؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية» 3 آلاف ريال كمتوسط دخل)، ما يعني أنها قد تكون أكبر بكثير. كذلك، بينما بات 6.9 ملايين مواطن بلا حسابات بنكية، تراجع معدل الادخار إلى 2.4 بالمئة بحسب مؤسسة «ساما»، وهو رقم يعتبر منخفضاً جداً مقارنة بالحد الأدنى العالمي البالغ 10 بالمئة.
هروب المستثمرين دفع السعودية إلى إدخال صندوقها السيادي في دوامة الاقتراض


ارتفاع نسبة البطالة وانخفاض الرواتب، في ظلّ رفع الدعم عن الوقود والكهرباء وفرض ضريبة القيمة المضافة، عوامل أدت إلى ضعف القدرة الشرائية للمواطن السعودي من جهة، وارتفاع تكاليف الإنتاج لدى الشركات، وبالتالي ارتفاع الأسعار من جهة ثانية. وبحسب الأرقام الرسمية، زادت فاتورة الكهرباء بنسبة 250 بالمئة، وسعر البنزين بنسبة 130 بالمئة، وكلفة الاتصالات بنسبة 50 بالمئة، وراوحت زيادة سعر مختلف السلع الاستهلاكية بين 10 و30 بالمئة. وعلى رغم أن المملكة أكبر مصدّر للنفط في العالم، إلا أنها ليست ضمن قائمة أرخص 10 دول، إذ تسبقها فنزويلا والسودان وإيران والكويت وغيرها... ومن المعلوم أن ارتفاع أسعار المحروقات المحلية يهدف إلى زيادة الإيرادات غير النفطية، لكن ذلك يؤثر بتكاليف الأعمال، وبالتالي يسبب زيادة في أسعار المواد الاستهلاكية، خصوصاً أن الشركات السعودية، التي تصنع بمعظمها موادّ استهلاكية، بدأت تواجه خسائر بالملايين بحسب الأرقام التي ترد في صحيفة «الاقتصادية» شبه الرسمية، كشركات «نادك» و«سوليدرتي تكافل» و«المملكة القابضة» و«الأسماك» و«التعاونية» و«ولاء للتأمين» و«العربية للأنابيب» و«سايكو» و«المراعي»، وغيرها الكثير. والأخيرة واجهت حملة تدعو إلى مقاطعتها في وسائل التواصل الاجتماعي في يوليو/ تموز من العام الماضي، بعد إعلانها ارتفاع أسعار الألبان، في مثال بيّن على تداعيات السياسات الاقتصادية على الشركات والمستهلكين على حد سواء. ولم ينحصر تراجع القدرة الشرائية في مجال المواد الاستهلاكية، بل ضرب قطاعات كبرى كالإسكان والسيارات. إذ يشهد سوق العقارات حالة ركود، فيما يتوقع متخصصون استمرار هبوط أسعار المنتجات العقارية بسبب ارتفاع المعروض مقابل تدني الطلب، علماً أن عدد المالكين للمساكن يبلغ 37 بالمئة فقط من السكان، وعدد المستأجرين 44 بالمئة. والأخيرون لا يجدون خياراً غير الاقتراض من «الصندوق العقاري»، الذي يفرض فوائد عالية جداً على المقترضين.
في خضمّ ذلك، لم تتخذ الحكومة سوى إجراء واحد لحماية المواطن المستهلك، هو «حساب المواطن» الذي من شأنه تقديم رزمة مساعدات للمتضررين من ارتفاع أسعار الوقود وضرائب القيمة المضافة الجديدة، لمدة عام واحد (تنتهي في كانون الثاني/ يناير المقبل). إلا أن ذلك لم يكن كافياً لسدّ الفارق بين الأسعار السابقة والحالية، وانتشال المواطنين من دوامة الديون، التي لا تزال مستمرة في الاتساع؛ إذ ارتفعت ـــ وفق «بلومبرغ» ـــ القروض الاستهلاكية الشخصية خلال 2018، لتصل إلى أعلى مستوى في عامين ونصف عام. رغم هذا، بدأ محمد بن سلمان يلمّح إلى وقف المساعدات أو تعديل خططها، وهو ما ذكره في مقابلة مع «بلومبيرغ» في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، حين أشار إلى أن «لدينا الآن كثيراً من النقاشات حول ما إذا كان يجب علينا أن نستمر بحساب المواطن أو أنه يجب علينا أن نعتمد على التعويض».
على خط موازٍ، في ظل تعثر رؤية ابن سلمان، وانعدام مناخ الأعمال والاستثمار، بدأت موجة هروب جماعي للمستثمرين والأثرياء من السعودية، على رغم الإجراءات الطمأنة التي اتخذتها السلطات في أعقاب حملة الـ«الريتز كارلتون» في تشرين الثاني/ نوفمبر 2017. ووفقاً لأحدث تقرير عن الاستثمار العالمي صادر عن «أونكتاد» (نُشر في 7 حزيران/ يونيو الماضي)، فإن الاستثمار الأجنبي المباشر بلغ العام الماضي 1.4 مليار دولار فقط، مقارنة بـ 7.5 مليارات دولار في العام السابق. وترجع زيادة هروب الاستثمارات، أيضاً، إلى حرب اليمن وقضية اغتيال جمال خاشقجي، اللتين أضرّتا بأسهم الشركات العاملة في السعودية بمجرد توعد أعضاء الكونغرس بمعاقبة الرياض، ما دفع مستثمرين إضافيين إلى الانسحاب من أجل الحفاظ على سمعتهم في السوق.
هروب المستثمرين دفع السعودية إلى إدخال صندوقها السيادي، للمرة الأولى، في دوامة الاقتراض، وذلك في أيلول/ سبتمبر الماضي، عندما جُمع قرض دولي بقيمة 11 مليار دولار. استدانة عزّز الدافعَ إليها أيضاً تعثّرُ المصدر الرئيس لتمويل «الرؤية»، وهو بيع نسبة 5 بالمئة من «أرامكو»، بسبب سوء تقدير السعر الحقيقي للشركة، التي يدعي السعوديون أن قيمتها الإجمالية تبلغ تريليونَي دولار، بينما هي في أعلى تقدير تبلغ 1.2 ترليون. والحل الذي يسعى ابن سلمان لتحقيقه اليوم، رفع قيمة «أرامكو» من خلال شراء الأخيرة الحصة المسيطرة (70%) من الشركة السعودية للصناعات الأساسية «سابك»، علماً أن كلتا الشركتين ملك للدولة، وبذلك يكون عملياً (في حال حصول البيع) قد باع نسبة من الشركتين معاً.