حدثان أساسيان فرضا نفسيهما على الوضع الداخلي في الساعات الاخيرة، الموازنة انطلاقاً من كلام رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في بكركي والورقة المالية التي رفعها رئيس الحكومة سعد الحريري عشية مجلس الوزراء الذي سيعقد في القصر الجمهوري، لأهميته المتعلقة بمناقشة الوضع المالي والموازنة. أما الحدث الثاني فارتفاع وتيرة الحديث عن احتمالات الحرب الاسرائيلية على لبنان، وما قاله الامين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، وموقف لبنان الرسمي من هذا الأمر.من يعرف رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ويطّلع منذ زمن بعيد على قراءته للأوضاع المالية والاقتصادية، يعرف أن كلامه في بكركي يوم عيد الفصح جزء يسير من رؤيته للوضع الاقتصادي. واستناداً الى ذلك، لا يمكن أن يقبل عون أي ضريبة على الفقراء ولا أي مسّ بقرش واحد من الرواتب، لأن هناك موارد كثيرة يمكن تحصيلها من دون المساس برواتب الموظفين والعسكريين، كالاملاك البحرية وغيرها. قال عون في بكركي كلاماً واضحاً في هذا الشأن، ومناقضاً تماماً لورقة الحريري المالية (نشرتها «الأخبار» أمس) التي لا يمكن أن يقبل بها، وقد يخوض معركة من أجل أن تكون الخطة الاقتصادية واضحة من دون تجنّ على أحد، وان تكون الموازنة متقشفة الى الحد الاقصى.
ما ان قال عون كلامه في الصرح البطريركي حتى اعتبر الحريري ووزير المال علي حسن خليل أنهما المعنيان برسالته. لكن السؤال الاساسي الذي يُطرح: إذا كان خليل أنجز الموازنة في آب الماضي، كما يقول، فأين العائق الذي حال دون صدورها، ومن يعرقلها، ولماذا لا تزال عالقة في الادراج، وهل يمكن ان يهدر وقت لبنان واللبنانيين من دون موازنة؟
الموازنة هي بيت القصيد، وخصوصاً ان الرئيس عون والتيار الوطني الحر خاضا معركة طويلة قبل سنوات لإقرار مبدأ صدور الموازنات في مواعيدها. من هنا يمكن تلمس إصرار الطرفين على إنجاز الموازنة الحالية وعدم تأخيرها. لكن الموازنة ليست منفصلة عن الاطار الاقتصادي الذي يعني المواطنين الذين يرون مظاهر البذخ عند كبار الموظفين في لبنان واستعراض ثرواتهم في الخارج، كما حصل في حفل زفاف ابن حاكم مصرف لبنان رياض سلامة قبل أيام، فيما هم يتعرضون لحملة تهويل بالمس برواتبهم. المشكلة المالية ــ الاقتصادية انفجرت أمام العهد جراء تراكم المشكلات منذ التسعينيات، حين لم يكن التيار جزءاً من المنظومة المالية التي تحكمت في البلد. فالكلام الكثير عن الفساد والهدر وخفض الرواتب تحول اخيراً عنواناً أساسياً، كما الكلام عن انهيار الوضع المالي والاقتصادي، وهذا ما يقلق المعنيين، إذ كيف يمكن معالجة الوضع والشائعات حول الانهيار المالي تتفاقم يومياً؟ ما يتردد حالياً يذكّر بما حصل في بنك انترا، الذي أسهمت الشائعات في تسريع انهياره، بعدما تدفّق المودعون لسحب ودائعهم، ما أدى الى فقدان المصرف السيولة. هكذا الحال اليوم. كمية الشائعات التي تدعو المودعين الى سحب ودائعهم كثيرة، وكثيرة هي الضغوط المالية ايضاً، لذا تكمن دقة الوضع وضرورة تحوط المواطنين، بحسب المعنيين، في أن يساعدوا في حل الازمة عبر تفادي الهلع، خصوصاً أن النظام المالي والمصرفي يتعرض لحملة تضييق، تترافق مع الحصار على اللبنانيين في الخارج وتراجع ضخ اموالهم في لبنان.
ستكون الموازنة متقشفة، بحسب إجماع الاطراف المعنيين. ورث لبنان هذه المشكلة منذ التسعينيات بسبب تراكم الديون والصرف المتمادي من دون إنتاج. التحدي اليوم هو في إمكان خروجه سالماً من أزمته الحادة، فيما ينتظر مؤتمر سيدر تطبيق الاصلاحات. لكن هذه الاصلاحات ليست منفصلة عن جزء أساسي فيها، أي مكافحة الفساد، التي يعول عليها العهد قضائياً وأمنياً. وما جرى اخيراً من خطوات هو «أول الغيث». فرئيس الجمهورية دعا، قبل سنة من الآن، في الافطار الذي أقامه في بعبدا، الى أن تكون معركة القضاء على الفساد هي المعركة التي يتوحد حولها اللبنانيون، للوصول الى إدارة نزيهة وشفافة، ما يجعل التحدي كبيراً في ترجمة ما قيل أفعالاً، خصوصاً أنه صاحب شعار منذ ان كان مبعداً في فرنسا ان لبنان بلد منهوب وليس مكسوراً. ويبدو واضحاً لدى المعنيين بحملة الفساد أن موظفين كباراً وصغاراً بدأوا يرتعبون من فكرة ملاحقة القضاء لهم وتطبيق الاجهزة العسكرية والامنية والقضائية إجراءات متشددة في ملاحقة أي مرتكب ومعاقبته، ما يعني أن هذه الحملة مستمرة وستشهد تصعيداً فيها على المستويات كافة.
إذا كانت قرارات مؤتمر سيدر لا تزال سارية المفعول، وتنتظر الاصلاحات اللبنانية، فإن السؤال الكبير: هل يسمح الاميركيون وهم مقبلون على عقوبات على حزب الله وايران، بمدّ لبنان بالمال عبر هذا المؤتمر؟
الظروف الإسرائيلية ليست مؤاتية لشنّ حرب، بسبب تكافؤ القوة الصاروخية والتدميرية


تقول المعلومات إن الاميركيين لا يزالون يدعمون المؤتمر ويشجعونه وهم جزء منه، إضافة إلى استمرارهم في تقديم الدعم للجيش. وفي المقابل، سمعت الوفود الاميركية الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية كلاماً واحداً، وهو أن لبنان كله يتحمل ضغط العقوبات وليس حزب الله وحده، وحزب الله من نسيج المجتمع اللبناني وأبناؤه هم أبناء الشعب اللبناني، وتالياً لا يمكن ان تطلب واشنطن من أي جهة رسمية أن تقف ضده أو تشن حرباً أهلية داخلية. سمع الاميركيون خلال زياراتهم الرسمية الأخيرة أيضاً كلاماً واضحاً بشأن النازحين السوريين، ما أسهم، برأي المسؤولين اللبنانيين المعنيين، في تغيير لهجة وزير الخارجية الاميركي مارك بومبيو بشأن هذا الموضوع عند عودته الى واشنطن. فخطر أزمة النزوح على لبنان يماثل خطر الأزمة الاقتصادية، ولا أفق أمام لبنان سوى المبادرة الروسية المتوقفة حالياً، بفعل عوامل متداخلة، لكنها لا تزال قائمة. أما البديل في الوقت الراهن، فهو العمل مع السلطات السورية عبر الأمن العام اللبناني على إعادة النازحين، وقد تمت إعادة نحو 200 ألف سوري، وهذا رقم يعتدّ به من أصل مجموع النازحين الموجودين حالياً، ولم يتم تسجيل أي تعرّض لهم من الجانب السوري.
في موازاة الضغط الاقتصادي والمالي، كثر الكلام عن احتمالات الحرب الاسرائيلية على لبنان، وكان نصر الله واضحاً في استبعاد هذه الحرب. ويتوافق هذا الكلام مع معلومات جهات رسمية ايضاً، وقراءتها، المستبعِدة لأي حرب اسرائيلية على لبنان: الظروف الاسرائيلية ليست مؤاتية، بفعل العوامل الداخلية والعوامل العسكرية التي باتت تل أبيب تعرف خطورتها، لأن أي حرب على لبنان لن تكون نزهة بالنسبة اليها. فقدرة الردع الصاروخية باتت كبيرة، وأي حرب تدميرية كما اعتادت إسرائيل أن تفعل لن تمر من دون رد، لأن تكافؤ القوة الصاروخية والتدميرية بات يرعبها. لكن كما هي حال الشائعات حول الوضع الاقتصادي، فإن القلق يتزايد من زيادة الضغط والتهويل بالحرب، كما يحصل منذ عام 2006، حتى اليوم، وخصوصاً عند أبواب الصيف، ما يضاعف مخاوف اللبنانيين وغير اللبنانيين من المجيء الى لبنان. لذا كان عون ميالاً الى توجيه رسالته من بكركي حول خروج لبنان من أزمته وعودة الازدهار اليه. تفاؤله بصيف واعد وازدهار اقتصادي، جعله يستعجل إقرار الموازنة وتسريع خطوات الاصلاح الاقتصادي، والاستفادة من الظروف المحلية والاقليمية، من أجل إخراج لبنان من أزمته.