على رغم أن العامل الاقتصادي كان دافع الاحتجاجات التي عصفت بالسودان منذ أربعة أشهر، وأطاحت الرئيس عمر البشير أخيراً، إلا أن العلاقات الخارجية، وموقع البلاد في الساحة الإقليمية، يبدوان من النقاط الخلافية بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى المعارضة، في ضوء سعيهما إلى الوصول إلى «خارطة طريق» مقبولة لدى الحراك الشعبي، صاحب الكلمة الفصل في نهاية المطاف. فالمجلس العسكري الجديد، ممثلاً برئيسه عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو، المُلقب بـ«حميدتي»، يجد نفسه أمام امتحان، بسبب علاقات الرجلين بمحور السعودية والإمارات، كونهما عملا معاً وعن قرب على تنسيق إرسال جنود سودانيين إلى اليمن منذ عام 2015، في مهمة أعلن حميدتي مساء أمس استمرارها بقوله إن القوات المشاركة في حرب اليمن مستمرة هناك. إعلان من شأنه زيادة ريبة المحتجين، الباحثين عن نظام جديد ديموقراطي لا مجال للوصاية عليه من الخارج. وهم من أجل ذلك، يستمرون في الاعتصام في كل المدن، حتى تسليم السلطة إلى مجلس سيادي مدني بتمثيل عسكري محدود، وإلغاء قوانين النظام العام والأمن والصحافة، وإنهاء الحرب في البلاد، وإقالة رئيس القضاء ونوابه، وإقالة النائب العام، وإعادة هيكلة الدولة والمؤسسات العسكرية والعلاقات الخارجية، بحسب ما حدد «تجمع المهنيين»، الذي يقود الحراك، في مؤتمر صحافي أمس، ألحقه ببيان مساءً يطالب بإبعاد السفراء «المعينين من قِبَل نظام الإنقاذ» في 54 دولة، من بينها السعودية والامارات ومصر وقطر وتركيا.حيثيات ولادة المجلس الجديد أنذرت الشارع بأن يكون الانقلاب، ومن ثم إزاحة عوض بن عوف ونائبه كمال عبد المعروف في اليوم التالي، أتيا بضغوط أطراف خارجية أرادت أن تمتص الغضب الشعبي للحفاظ على حكم عسكريين موالين لها، من خلال دفعهم إلى التقرب من المحتجين. وهنا، يبدو «حميدتي» الأكثر جدلاً، خصوصاً أنه اتخذ مواقف اعتبرها مراقبون داعمة للاحتجاجات منذ شباط/ فبراير الماضي، ثم ظهوره خلال الاعتصام الحالي حاثاً قواته على عدم فضّ الاعتصامات، وصولاً إلى رفضه الانخراط في مجلس بن عوف «إلى حين الاستجابة لمتطلبات الشعب والبدء بها» كما قال في حينها. لكن مزاعم الرجل الحرص على الحراك الشعبي بدّدها انخراطه في اليوم التالي في مجلس البرهان، على رغم أن الأخير لم يستجب لأي من «مطالب الشعب»، لا سيما المطلب الأساسي المتمثل في تقليص مدة المرحلة الانتقالية المحددة بعامين، علماً بأن حميدتي كان يوم رئاسة بن عوف من المطالبين بفترة انتقالية من ثلاثة إلى ستة أشهر، وتشكيل مجلس انتقالي يضم مدنيين وعسكريين. وها هي مطالبه نفسها تظهر في لائحة شروط «تجمع المهنيين»، من دون أن يتمكن الأخير إلى الآن من انتزاعها من المجلس العسكري.
لن يكسب «العسكري» رضى الشارع سوى بتسليم السلطة إلى مجلس مدني


وما يثير ريبة المتظاهرين أكثر، مسارعة السعودية والإمارات والولايات المتحدة إلى مباركة حكم المجلس العسكري بتشكيلته الجديدة، بعد فترة صمت إزاء مشهد الاحتجاجات طوال الأشهر الماضية. الدولتان الخليجيتان كانتا أولى الدول الداعمة له، أما الولايات المتحدة فقد عبّرت عن دعمها بأول لقاء دبلوماسي للمجلس العسكري، أجراه حميدتي مع القائم بالأعمال لدى الخرطوم، ستيفين كوتسيس، في حين يجرى حديث عن تعيين سفير جديد لدى واشنطن، بعد إعفاء محمد عطا المولى، أول من أمس.
في هذا الإطار، يشير وزير التعاون الدولي السابق، والأمين السياسي لـ«المؤتمر الشعبي»، السفير إدريس سليمان، إلى أن ما سبق «يدل على أن الدول شرعت في اتخاذ مواقف من النظام الجديد في السودان». ويرى، في حديث إلى «الأخبار»، أن الولايات المتحدة والسعودية والإمارات تربطها مصالح مع السودان، وكل دولة تحاول التموضع حسب حجم مصالحها»، مضيفاً أن «وجود علاقات قديمة مع شخصيات في المجلس العسكري الانتقالي يساعد على مثل هذه اللقاءات».
من جهته، يعتبر سفير السودان السابق لدى الولايات المتحدة، الرشيد أبو شامة، في حديث إلى «الأخبار»، أن «التحركات الدبلوماسية للسعودية والإمارات وأميركا بعد إطاحة البشير طبيعية»، مشيراً إلى أنها «لم تكن المرة الأولى التي تبادر فيها السعودية إلى تقديم مساعدات، ففي انتفاضة نيسان/ أبريل عام 1985 التي أطاحت الرئيس الأسبق جعفر نميري، قدمت السعودية مساعدات إنسانية للسودان». وفي ضوء ذلك، استبعد أبو شامة أن يكون ما تقوم به السعودية والإمارات وأميركا يأتي في إطار تحالفات المحاور الإقليمية، على اعتبار أن «حكومة السودان لم تؤلف بعد، وليس هناك شخص مسؤول عن وزارة الخارجية». لكن المتحدث باسم تحالف «قوى الحرية والتغيير»، شهاب إبراهيم، قال لوسائل إعلام إن «أبو ظبي تريد كسب ودّ النظام أو الحكام الجدد، وليس أمامها سوى دعم إجراءاته»، مشيراً إلى أن الدعم الاقتصادي المقدم يهدف إلى «تمكين المجلس العسكري بقيادة البرهان»، و«كسب ثقة السودانيين».
لكن مساعي الرياض وأبو ظبي في تصعيد حكم موال لهما في السودان تبدو متعثرة، في ظلّ إصرار قيادة الحراك الشعبي على التظاهر والاعتصام حتى تلبية مطالبها، التي من شأنها إبعاد المجلس العسكري عن الحكم، إذ يطالب منظّمو الاحتجاجات بحل المجلس العسكري الانتقالي، واستبداله بمجلس مدني يضمّ ممثلين للجيش، ما يعني أن الأول لن يكسب رضى الشارع بمجرد تأليف حكومة مدنية، خصوصاً أن كثيراً من قادة الحراك الشعبي و«قوى الحرية والتغيير» يرفضون طبيعة العلاقة التي كانت قائمة أيام البشير مع السعودية والإمارات، ولا سيما المشاركة في حرب اليمن، كحزب «الأمة القومي» و«الحزب الشيوعي السواني»، وهم من المستبعد أن يقبلوا بعلاقات من هذا النوع أو بما يتجاوزها، كما تطمح السعودية والإمارات.