إسطنبول | بعد أيام على صدور نتائج الانتخابات المحلية في تركيا، ورغم عدم نهائية هذه النتائج، تكشّف المزيد من الأسباب والمعطيات حول الواقع الجديد الذي فرضته الانتخابات، وأهم معالمه تراجع «حزب العدالة والتنمية» الحاكم. أسباب تقف على رأسها الأزمة المالية والاقتصادية التي دخلت البلاد في أتونها، وبلغت ذروتها بشكل جلي ومؤثر على حياة المواطنين اليومية في آب/ أغسطس من العام الماضي، حين فقدت الليرة التركية على إثرها أكثر من 40% من قيمتها في «الجمعة السوداء» التي شكلت إشارة البدء لمؤشرات اقتصادية صعبة، حيث بلغت نسبة التضخم العام في البلاد نحو 20%، فيما بلغت معدلات البطالة نحو 11%.
الاقتصاد
الوضع الاقتصادي المتراجع قضم كثيراً من شعبية «حزب العدالة والتنمية» الحاكم في المدن الكبيرة، بعدما اعتمد طويلاً منذ عام 2002 على ارتفاع مطرد في نسبة النمو في البلاد، وهذا ما أتاح له تحقيق انتصارات انتخابية متتالية، فيما خاض الحزب الحاكم الانتخابات المحلية هذه المرة مثقلاً بانكماش اقتصادي يواجهه للمرة الأولى منذ عشر سنوات، ونسب تضخمية قياسية، وبطالة أعلى من المعتاد. ويرى أستاذ الاقتصاد في جامعة بيلغي في إسطنبول، إيمري إردوغان، أن الاقتصاد «أدى بالتأكيد دوراً» في تراجع «العدالة والتنمية»، ويضيف: «الناس هنا في الحقيقة ينتمون إلى الاقتصاد، هم ليسوا مؤدلجين بالشكل الذي يدفعهم الى انتخاب طرف دون طرف مهما كانت الظروف، العامل الاقتصادي كان ولا يزال يؤدي دوراً أساسياً في المعادلة». ويرى إيمري أن الرئيس رجب طيب إردوغان لجأ أخيراً إلى تنفيذ مشروعات «غير ذات جدوى على الاقتصاد بشكل فعلي»، وهو ما يعدّ «مجرد تهويل إعلامي لا قيمة اقتصادية بنيوية أو إصلاحية له». بدوره، تلمّس إردوغان في نتائج هذه الانتخابات انخفاضاً في شعبيته، وهو ما يشكل تراجعاً في حضور حزبه للمرّة الأولى. إذ إنه أدلى بما يُعدّ «اعترافاً» بدور الأزمة الاقتصادية في هذا التراجع، حين سارع إلى استدراك الأمور من خلال وعوده بإعادة تنشيط النمو الاقتصادي، والتعهد بأن تركيز تركيا «منذ الآن» سيكون على الاقتصاد المتعثر قبل الانتخابات العامة في 2023. وقال: «أمامنا مدة طويلة يمكننا فيها تنفيذ إصلاحات اقتصادية من دون التهاون في قواعد السوق الحرة».
وقد خسر التحالف الحاكم خمساً من بين أكبر 7 بلديات لمصلحة المعارضة، وهي: إسطنبول (لا يزال الخلاف قائماً عليها)، أنقرة، أضنة، أنطاليا وإزمير. أما بالنسبة إلى الولايات الكبيرة التي بقيت للحزب، فقد فاز «العدالة والتنمية» في بلدية غازي عنتاب فقط بشكل مريح، بينما في بورصا (العاصمة العثمانية السابقة ومعقل «العدالة والتنمية» منذ فترة طويلة) فقد احتل المرتبةَ الثانية مرشحُ «حزب الشعب الجمهوري»، بفارق أقل من 3% (مقارنة بهامش يزيد على 20% في انتخابات 2014).

تخوين الخصوم وإقصاء الأصدقاء
لكن العامل الاقتصادي لم يكن الوحيد الذي أثّر على أصوات الناخبين. فثمة عدة عوامل أخرى قد أدت إلى قلب الموازين. ويلفت مدير النشر في صحيفة «ديلي صباح» التركية المقربة من الرئاسة التركية، سنان أوزتورك، إلى خطاب إردوغان الاستقطابي طوال الحملة الانتخابية، ووصفه خصومه بأنهم «إرهابيون وخونة» و«حلفاء أعداء تركيا» وغيرها من الأوصاف. وهي اتهامات لم تقتصر على منافسيه فحسب، بل شمل هجومه الكلامي خلال الحملة الانتخابية رفاقه السابقين الذين ابتعدوا عن «حزب العدالة والتنمية» الحاكم، حين شدد خلال حشد انتخابي على أن «من نزل من القطار لن يركبه مجدداً على الإطلاق»، مغلقاً الباب أمام إمكانية عودتهم إلى واجهة الحزب.
وعلى الرغم من تجنبه الدائم ذكر أسماء المقصودين من هذه التصريحات، فإن أبرز الشخصيات التي ابتعدت عن الحزب في السنوات الأخيرة هم: الرئيس السابق عبد الله غول، رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، وزير الاقتصاد السابق علي باباجان والقيادي في الحزب بولنت أرينتش. كما تطاول الاتهامات: وزير الاقتصاد السابق محمد شمشيك ووزير الداخلية السابق بشير أطلاي، وما لا يقل عن عشرة وزراء سابقين في حكومات «العدالة والتنمية». كذلك، اتهم إردوغان أعضاء «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي في البرلمان بإقامة روابط مع «حزب العمال الكردستاني» المحظور، فيما ادعى «العدالة والتنمية» بأن التحالف المقابل «يتعاون مع الإرهابيين».
ويعتقد أوزتورك أنه «حتى أنصار العدالة سئموا من هذه اللغة المثيرة للخلاف دائماً»، ويشير إلى أن تقارير تحدثت على لسان أحد المطلعين داخل الحزب، الذين تربطهم صلات وثيقة ببن علي يلدريم مرشح «العدالة والتنمية» في إسطنبول، عن رفض العديد من أنصار الحزب التصويت لمصلحة الأخير. ويتابع أوزتورك أنه في ظل هذا الخطاب العدواني من إردوغان، فإن المعارضة نأت بنفسها عن الدخول في تلك السجالات السياسية خلال الفترة الأخيرة، برغم الاتهامات الموجهة إليها من قِبَل إردوغان وحزبه، وركزت على تقديم مرشحين أقوياء في الانتخابات والتنسيق مع بقية أحزاب المعارضة في العديد من المناطق.
عدم تحالف «الشعب الجمهوري» مع «السعادة» أدى إلى نزف أصوات الإسلاميين


ويرى خبراء أن أحزاب المعارضة لم تتنافس في ما بينها في بعض المدن الرئيسة، وهو ما رجح كفّتها أمام «العدالة والتنمية» الحاكم، فيما يعتقد أستاذ علم الاجتماع السياسي، أحمد أويصال، أن «عدم تقديم مرشحين أقوياء لحزب العدالة والتنمية أدى دوراً في خسارته»، مُمثِلاً لذلك بمرشح الحزب لبلدية أنقرة محمد أوزهسكي «صاحب القدرات المحدودة في الإدارة والخطابة والإقناع، والذي يُعد وجهاً مغموراً جداً ولا يناسب أنقرة». أما في إسطنبول، حيث خسر «العدالة والتنمية» بفارق ضئيل جداً، صوّت أكراد «الشعوب الديمقراطي» لمصلحة «الشعب الجمهوري» بشكل جماعي، علماً بأن الأكراد يمثلون ما يصل إلى 11% من الأصوات في إسطنبول، التي تُعدّ أكبر مدينة كردية في العالم. وعلى الرغم من الخلاف الجذري بين انطلاقات الحزبين الفكرية، فقد جاء تصويت الأكراد تماشياً مع تعليمات من حزبهم الذي أقام في ما يبدو تحالفاً غير رسمي مع «الشعب الجمهوري» في المحافظات الكبيرة، خارج معاقله الرئيسة في جنوب شرق البلاد الذي تقطنه أغلبية كردية، وعمد إلى الامتناع عن تقديم مرشحين في تلك المحافظات.
من العوامل الأخرى التي لعبت لمصلحة «الشعب الجمهوري»، قراره عدم إدراج «حزب السعادة» الصغير (الإخوان المسلمون) في تحالف ثلاثي مع «الحزب الجيد» كما فعل خلال الانتخابات البرلمانية في حزيران/ يونيو من العام الماضي. إذ لم يتكرر سيناريو نفور مؤيدي «السعادة» وامتناعهم عن التصويت لتحالف يضم الأحزاب العلمانية كما في الانتخابات البرلمانية، الأمر الذي أدى إلى نزف أصوات الإسلاميين بعيداً عن «العدالة والتنمية» هذه المرة، وليس العكس. وعلى الرغم من أن تأثيره كان صغيراً جداً، فإن «السعادة» ساهم بشكل أو بآخر في خسارة «العدالة والتنمية»، وخصوصاً في إسطنبول.

الملف السوري
السياسة الخارجية لإردوغان كانت هي الأخرى محطّ استنكار الناخب التركي، وعلى رأسها طبيعة تعامل الرئيس مع ملف الحرب السورية، والدخول في عمليات عسكرية على الأراضي السورية لطالما نددت بها أحزاب المعارضة، واعتبرتها إهداراً لدماء جنود الدولة، في سباق لا يُعد أولوية لها، إلى جانب استقبال تركيا ملايين اللاجئين السوريين وتقديم تسهيلات كبيرة لهم اعتبر الكثيرون أنها تأتي على حساب المواطن التركي. فقد أبرزت الأرقام الانتخابية تقدم المعارضة في مناطق تعجّ بالسوريين، ففي إسطنبول مثلاً، اقتنصت المعارضة بلديتي قضاءين من أقضية المدينة للمرة الأولى من يد «العدالة والتنمية»، حيث فاز مرشح المعارضة برئاسة بلدية قضاء اسنيورت (شهد أعمال عنف بين الأتراك والسوريين قبل الانتخابات البلدية بأسبوعين). كذلك، فاز مرشح المعارضة في قضاء كوتشوكتشكمجي للمرة الأولى أيضاً، وهو قضاء يجمع عدداً كبيراً من أفراد الجالية العربية والسورية بشكل خاص. وهو ما دفع إردوغان الى التصريح بأن بلاده ستعمل على حل الأزمة السورية بعد الانتخابات المحلية، إما بالمفاوضات أو ميدانياً، والقول: «عقدنا العزم على إنهاء الإرهاب الاقتصادي بقدر ما أبدينا تصميماً على القضاء على الإرهاب المسلح». إضافة إلى ما تقدم، يعتقد متابعون أن حملات الاعتقال الكبيرة التي تشنها الأجهزة الأمنية التركية هي سبب آخر وراء عزوف شرائح من الأتراك عن التصويت لـ«العدالة والتنمية»، إذ بلغت أعداد المعتقلين بعد الانقلاب الفاشل في صيف 2016 حتى الآن أكثر من 250 ألف معتقل، معظمهم من مؤسستي الأمن والجيش والمؤسسات الحكومية.
وقف الأتراك أمام صناديق الاقتراع من أجل الانتخابات المحلية الرابعة منذ وصول «العدالة والتنمية» إلى السلطة قبل 16 عاماً، في اقتراع سيكون الأخير قبل حلول عام 2023 حين تنعقد الانتخابات البرلمانية والرئاسية معاً، بالتزامن مع احتفال الجمهورية بعيد ميلادها الـ 100. احتفال يطمح إردوغان إلى أن يكون مزدوجاً يتوّج فيه الحزب مسيرة عقدين تقريباً من الحُكم، أعاد خلالهما تشكيل وجه الحياة السياسية والاقتصادية في تركيا بشكل كامل. لكن طموحات إردوغان بدا كأنها تعرقلت بالأمس، بينما ظهرت تلك النتائج المخيبة.



إمام أوغلو: لقبول النتيجة وعودة السوريين


في وقت يلمّح فيه الرئيس رجب طيب إردوغان، وأنصاره، إلى إلغاء نتائج انتخابات إسطنبول بذريعة «مخالفات ممنهجة في عملية فرز الأصوات»، تتمسك المعارضة بالنتيجة. وأمس، طالب نائب رئيس الكتلة البرلمانية لـ«حزب الشعب الجمهوري» المعارض، أنغين آلطاي، بقبول النتائج، مشيراً إلى أنه «تم الانتهاء من الانتخابات في 39 بلدية إلى جانب بلدية إسطنبول الكبرى، ومرشّح الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو يُعدّ رئيساً لبلدية إسطنبول بفارق 13 ألفاً و970 صوتاً». وشدد على أنه «لا يمكن إعادة الانتخابات».
من جهته، دعا أكرم إمام أوغلو، الفائز عن «الشعب الجمهوري»، وفق النتائج الأولية، اللجنة العليا للانتخابات إلى حسم قرارها، وقال: «نحن لن نتنازل عن انتخابات فزنا بها. وتطرّق إمام أوغلو في كلمته أمام تجمع في إسطنبول إلى الملف السوري قائلاً: «بصفتي رئيس بلدية 16 مليون شخص، سأسمع صوتكم في المحافل الدولية كافة، وسنقول بدل اهتمامكم بنفط سوريا، أتيحوا المجال من أجل الاستقرار والأخوة للناس هناك، وكونوا عوناً لهم، ليعود السوريون الذين نستضيفهم في تركيا إلى وطنهم بأقرب وقت».
(الأناضول)