بين أنصار العهدة الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، وخصومه السياسين والعسكريين الداعمين للاحتجاجات المطالبة بتنحّيه، بات الشارع، شاء أو أبى، فيصل صراع لم يعد مكتوماً في أعلى هرم الدولة. لكن مما لا شك فيه، أن تلك الخلافات لا تزال تصبّ حتى الآن في مصلحة معسكر الرئيس، الموجود في جنيف منذ أحد عشر يوماً، لعدم وجود ضمانات بتحقيق توافقات تحقق انتقالاً سلساً للسلطة، في حين تسعى فيه دائرة المقربين من الرئيس، التي تشمل أعضاءً في الجيش والمخابرات ورجال أعمال، إلى كسب الوقت، بخطاب يحذّر من الفوضى، وأحياناً «السورَنة».ارتفاع صوت الشارع والمطالب غير المسبوقة منذ عشرين عاماً حرّك المياه الراكدة في صفوف أحزاب المعارضة، التي باتت تدعو إلى إعلان شغور منصب الرئيس، وتأجيل الانتخابات المقررة في نيسان/ أبريل المقبل، لكن تأثير الاحتجاجات على أجنحة السلطة يبدو أكبر، في ظلّ استمرار التظاهرات ورفض المعارضة «تسوية» تقليص مدة رئاسة بوتفليقة بعد الانتخابات، كطريق وحيد للانتقال السياسي، الذي يؤكد الجيش أنه لن يكون خارج معادلاته لتأمين سلاسته، وهو ما عبّر عنه بالتحذير من الفوضى، باستحضار ذكريات الحرب الأهلية التي دارت رحاها في التسعينيات، بعدما حمل الإسلاميون السلاح عندما ألغى الجيش انتخابات كانوا في طريقهم إلى الفوز بها.
لكن بالنظر إلى ارتدادات المشهد المستجد على النظام السياسي، القائم منذ عقود على الإجماع بين النخبة الحاكمة، تبدو مهمة الجيش أصعب، لكون الشباب الجزائري يحتجّ سلمياً، ليس ضد شخص الرئيس، أحد أبطال حرب الاستقلال، بل ضدّ ترشحه، علماً منهم بأن حياته باتت مهددة دائماً، وبحاجة لرعاية طبية مستمرة، كما نقلت صحيفة «لا تريبيون دو جوناف» السويسرية عن مصادرها أمس. فهم عملياً يثورون على نظام يحكم منذ عشرات السنين بانتخابات يرونها شكلية. ورغم أن لا صلة مباشرة لكثير منهم بحرب الاستقلال التي تعزز مكانة القادة المتقدمين في السن، إلا أن انضمام قدامى المحاربين، الذين قاتل بوتفليقة إلى جانبهم ضد المستعمر الفرنسي، إلى المحتجين، ودعوتهم جميع المواطنين إلى التظاهر، أول من أمس، يعطى المحتجين شعوراً أقوى بوطنية التظاهرات، وقد بدا تأثير رموز الثورة على الحراك الشعبي المتصاعد، في الزخم الذي أعطته مشاركة جميلة بوحيرد (84 عاماً) في تظاهرات الأحد الماضي، يوم إعلان ترشح بوتفليقة.
تدعو أحزاب المعارضة إلى إعلان شغور منصب الرئيس وتأجيل الانتخابات المقررة


لكن بعيداً عن التأثيرات المعنوية، ثمة تصدعات سياسية وفي صفوف المؤسسة العسكرية، تبرزها خطوة المحاربين القدامى، بما يجعل قيادة الجيش في موقف الضعيف هذه المرة. فـ«منظمة المجاهدين»، التي تضمّ محاربي الثورة، يتزعمها السعيد عبادو، وهو أحد قياديي «حزب التجمع الوطني الديموقراطي»، الذي يقوده الوزير الأول (رئيس الحكومة) أحمد أويحيي، فيما يصرّ الأخير على أن تجري الانتخابات في موعدها، وهو يأمل أن يطرح نفسه بديلاً جاهزاً في حال حدوث تطورات مفاجئة. كذلك تعزز الخطوة من صراعات يعانيها الجيش مع جنرالات متقاعدين آخرين، مرتبطين بالقائد السابق للاستخبارات الجنرال محمد مدين، الذي يستمر تأثيره في الساحات الخلفية، ومن بينهم الجنرال المتقاعد علي غديري، الذي أعلن ترشحه ضد بوتفليقة بعدما دعا الجيش إلى التدخل لمنع الأخير من ولاية خامسة. وكان بوتفليقة قد بدأ في حزيران/ يونيو 2018 تغييرات عسكرية غير مسبوقة، شملت قادة نواحي وقائدي الشرطة والدرك الوطني ومدير أمن الجيش (أقوى جهاز مخابرات)، ثم استُكملت في أيلول/سبتمبر لتشمل قائدَي القوات البرية والجوية، إلى جانب الأمين العام لوزارة الدفاع.
الجيش الذي يلزم ثكناته منذ بدء الاضطرابات، تتعقّد مهمته أكثر، مع ظهور تصدعات في هرم السلطة السياسية أيضاً، وانضمام بعض المسؤولين من حزب «جبهة التحرير الوطني» الحاكم إلى الاحتجاجات الأسبوع الماضي، لعلّ أهمهم الوزير السابق سيدي أحمد فروخي، الذي أعلن استقالته من الحزب الحاكم والبرلمان في منشور في «فيسبوك»، مبدياً تضامنه مع المحتجين. تضاف إلى ذلك الاستقالات من «منتدى رؤساء المؤسسات»، وهو رابطة أعمال يدعم زعماؤها بوتفليقة منذ فترة طويلة، تعاطفاً مع المحتجين. ومن بين المستقيلين نائب رئيس المنتدى، العيد بن عمر، الذي رأى أن الرابطة حادَت عن رسالتها المتمثلة في المساعدة على قيادة البلد إلى مستقبل أكثر إشراقاً، فضلاً عن شخصيات عامة عدة أعلنت استقالاتها، في بلد يجري فيه عادة تغيير المسؤولين خلف الأبواب المغلقة. وتوالت التصدعات، أمس، بمقاطعة «اتحاد المحامين الجزائريين» (نقابة) الجلسات القضائية لمدة 4 أيام في جميع محاكم البلاد، اعتباراً من الاثنين المقبل، احتجاجاً على ترشح بوتفليقة. إذ حمّل المحامون، المحكمة الدستورية، المسؤولية، بسبب قبولها ملف ترشّح بوتفليقة، رغم عدم أهليته بسبب وضعه الصحي وفقاً للدستور والقانون، مشيرين إلى أن «المادة 28 من القانون الداخلي للمجلس الدستوري تنصّ على أن المترشح يقدم بنفسه ملف الترشح»، بينما فوّض بوتفليقة إلى مدير حملته عبد الغني زعلان، إيداع ملفه الأحد الماضي.