عاد الجيش الجزائري، المؤسسة العسكرية التي تتمتع بنفوذ واسع في هرم سلطة، أمس، إلى لغة «التحذير» من مغبة الاحتجاجات المستمرة، الرافضة لترشّح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة. وإذ لم يُظهر ميلاً معتاداً لصالح السلطة، «الواجهة المدنية» التي حكم من خلالها البلاد منذ ما بعد حرب الاستقلال عام 1954، فهو وجّه رسائل إلى المتظاهرين والمعارضة، من شأنها التأكيد، على الأقل، على أنه لن يسمح بالفوضى التي حذر منها مراراً.موقف الجيش، الذي يردد دائماً أنه يحترم مهامه الدستورية ولا يتدخل في التجاذبات السياسية، بدا أمس أكثر حذراً بخطاب أمني بحت، أكد فيه رئيس الأركان، الفريق أحمد قايد صالح، أنه سيبقى «ممسكاً بزمام» الأمن، وأنه لن يسمح بعودة البلاد إلى «سنوات الجمر والألم»، أو ما عُرف بـ«العشرية السوداء» في تسعينيات القرن الماضي، والتي كان فيها صالح طوال تلك المدة قائداً للقوات البرية. الحركة الشعبية غير المسبوقة من حيث حجمها وسقف مطالبها خلال العشرين سنة الماضية، وتلميح النظام إلى أن أيادي خارجية تحركها، دفعا الجيش إلى مواكبة تطور المشهد في البلاد، مع دخوله مرحلة أكثر تعقيداً، بعد إعلان فريق بوتفليقة، الموجود في مستشفى سويسري منذ أسبوع، تقديم ملف ترشحه أمام المجلس الدستوري، الأحد الماضي.
وتمثل المشهد الجديد، بمسارين: الأول، رفض المحتجين «تسوية» الرئيس، القائمة على الدخول في «عهدة» خامسة لمدة سنة، والدعوة إلى انتخابات مبكرة لا يترشح فيها هو، وقد عبروا عن ذلك بمواصلة التظاهر حتى يوم أمس في العاصمة ومدن أخرى، تأكيداً على أن التنحّي هو المطلب الرئيس للتظاهرات، خصوصاً في ظلّ انعدام الثقة بقدرة السلطة على الالتزام بالرسالة التي بعث بها بوتفليقة أخيراً (من جنيف)، والتي تضمنت وعوداً بتحقيق «إصلاحات» مؤجّلة منذ عقود. والثاني، مُضي أحزاب المعارضة في اعتلاء مركب الشارع، بالانسحاب من السباق الانتخابي يوم إعلان الترشح، كتعبير عن انضمامها إلى مطالب التغيير الجذري، ومن ثم دعوتها إلى تفعيل بند شغور منصب الرئيس، بموجب المادة 102 من الدستور، وتأجيل الانتخابات المقررة في 18 نيسان/ أبريل المقبل، بعد سنوات من عدم خروجها عن «قواعد اللعبة»، وعدم إبدائها حماسة تُذكر لتحقيق التغيير، على رغم أنها متواجدة في البرلمان منذ عام 1997.
الشبان المحتجون تقلّ أعمار 70 بالمئة منهم عن 30 عاماً


لكن نائب وزير الدفاع، صالح، لم يحرص كما جرت العادة، في الخطاب الذي ألقاه أمس خلال زيارة إلى الأكاديمية العسكرية، على إظهار ولائه التام للرئيس بوتفليقة، ما عده مراقبون رسالة «مهادنة» للمتظاهرين لأول مرة، مقارنة بتصريحات سابقة أدلى بها خلال زيارة إلى محافظة تمنراست جنوب البلاد في 26 شباط/ فبراير الماضي، حذر فيها من «نداءات مشبوهة ظاهرها التغني بالديموقراطية، وباطنها جرّ هؤلاء المغرر بهم إلى مسالك غير آمنة بل غير مأمونة العواقب». لكن وزارة الدفاع أتبعت تلك التصريحات الحادة ببيان مخفّف، جاء فيه أن صالح يتعهد «أمام الله والشعب وفخامة رئيس الجمهورية بتوفير كافة الظروف الملائمة التي تسمح بإجراء الانتخابات الرئاسية، في كنف الهدوء والسكينة والأمن والاستقرار».
رسائل «المهادنة» إلى الشبان المحتجين، الذين تقلّ أعمار 70 بالمئة منهم عن 30 عاماً، ويتصدرون الاحتجاجات المطالبة بجيل جديد من الزعماء، لا تربطه صلات تذكر بالحرس القديم المؤلف من الحزب الحاكم وأباطرة الأعمال والجيش وأجهزة الأمن، لم تخلُ من تأكيد المؤسسة العسكرية على دورها الأساسي كـ«منقذ»، للحفاظ على صورتها كحصن منيع في وجه انعدام الاستقرار. بدا ذلك في التحذير من العودة إلى مرحلة الأزمة الأمنية التي عاشتها البلاد في التسعينيات، والتي رأى قايد صالح، أن انتهاءها «لم يرض بعض الأطراف» من دون أن يسميها. وعلى رغم كون كلامه عن تلك الحقبة مألوفاً، وقد دأب على توجيهه في كل خطاباته، لكنه حمل في هذه المرة رسالتين: الأولى إلى الأحزاب والشخصيات المعارضة التي طالبته بحماية المواطنين والدفاع عن حقوقهم الأصيلة والاستجابة لمطالب الشعب، في اجتماع عقد السبت الماضي وخرج بـ«رفض سياسات الأمر الواقع وتمرير خيارات السلطة بالقوة»، بأن مهمة الحفاظ على الأمن تستوجب منه الحفاظ على النظام. والثانية رأى مراقبون أنها موجهة إلى جهة داخل السلطة تدفع إلى تأجيج الأوضاع، في ظلّ خلافات وصراعات داخلية تتنامى بين أقطاب النظام، لتحديد مرشح خليفة لرئيس البلاد.