يصبح البديهي والطبيعي حدثَ العمر متى تعذّر أو تعرقل فتأخّر حصوله. بهذا يمكن وصف الجولة الأوروبية التي يقوم بها الفنان زياد الرحباني وفرقته بدءاً من اليوم الجمعة. بين ريبرتواره الخاص الغني كمّاً ونوعاً وتنوّعاً لناحية التأليف والتوزيع والتجديد من جهة، وبين قدراته في العزف والارتجال على البيانو، يتوقّع المراقب عن بُعد بأن الرجل لا يمرّ شهرٌ من دون أن يكون قد حطّ في بلدٍ أوروبي لتقديم مشروعه الفنّي في عالمٍ تراجعت فيه التجارب الجيدة التي تستحق المتابعة، حتى في أوروبا التي جنحت في الموسيقى الكلاسيكية نحو التجريب والتجريد وفي الجاز نحو الهجين والحرّ، وفي البوب نحو الاستهلاكي والسطحي (مع وجود استثناءات جيدة دائماً). لكن الواقع ليس كذلك. فعندما يستقبل مسرح الـ «أولمبيا» الفرنسي العريق نانسي عجرم، لا يعود هناك مكان لزياد الرحباني، تلافياً للالتباس! من هذا المنطلق، وفي هكذا زمن، يمكن القول، نعم، إنها جولة العمر التي تأخّرت كثيراً، ولن نضيف «التي لن تتكرّر»، بل يجب أن تتكرَّر بأشكال وأهداف مختلفة. هذه المرّة، إنها جولة حفلات حية، فلتكن المرة المقبلة جولة تسجيل، وبعدها جولة إلى جانب فرقة ضخمة وبعدها حفلة واحدة في مسرح كبير بمرافقة أوركسترا مكتملة.

على أي حال، تأخرت لكنها أتت، مع أنها ليست الخروج الأول لزياد الرحباني إلى الرحاب الأوروبية التي تعود علاقته بها إلى عام 1985، عندما قدّم أمسيات في فرنسا وبلجيكا وإسبانيا، نظّمتها وقتها «النجدة الشعبية». يمكن الرجوع إلى أواخر السبعينيات أيضاً، وأولى رحلاته إلى اليونان للتسجيل (أسطوانة «أبو علي» وغيرها). عام 1986 رافق فيروز إلى لندن، فشارك في العزف على البيانو وأعاد توزيع القسم الأكبر من البرنامج الذي صدرت منه باقة في أسطوانة «فيروز في الرويال فستيفال هول» التي تعدّ من أهم حفلاتها المنشورة (إلى جانب «بيت الدين 2000» بالتأكيد). عام 1998، عاد إلى باريس لتقديم حفلة في «معهد العالم العربي»، ومنذ ذلك الحين لم يعُد إلى أوروبا إلّا للتسجيل (بلجيكا ـــ ألبوم فيروز «ولا كيف») أو لمعالجة نهائية لتسجيل منجَز في بيروت (ألمانيا ــ ألبوم فيروز ما قبل الأخير «إيه في أمل»). قبل بضع سنوات، كان في صدد افتتاح علاقته الموسيقية الحية في ألمانيا، حيث كان من المفترض أن يقدّم أمسية ألغيت بُعَيد الإعلان عنها، لتكون السنوات الـ15 الأخيرة محصورة خارج الحدود في الوطن العربي، بين الإمارات العربية (2005 في أبو ظبي وبعدها أمسيات عدة بين أبوظبي ودبي والشارقة) وسوريا (2008 و2009) ومصر (2010 و2013 و2018).
إذاً، زياد الرحباني في أوروبا مجدداً، في جولة مكثّفة تحمل عنوان «تحية إلى جو سامبل». البداية من برلين التي يقدّم فيها أمسية وحيدة في Kesselhaus (اليوم ـــ الثامنة مساءً)، قبل أن ينتقل إلى بروكسل التي تستقبله في موعد واحد أيضاً في Université Libre de Bruxelles (Auditoire K) عند السابعة مساءً في الثالث من آذار (مارس). من بلجيكا، يتجه الرحباني وفرقته إلى باريس لإحياء ليلتَين في New Morning (4 و5 آذار، الثامنة مساءً)، قبل أن يعبر نحو لندن ليحط في نادي الجاز الشهير Jazz Café (6 آذار، السابعة مساءً). بعد استراحة قصيرة، تخرج الفرقة من لندن باتجاه روتردام (هولندا) ليختم زياد الرحباني هذه الرحلة بأمسية أخيرة في De Doelen (9 آذار، الثامنة والربع مساءً).

مع جو سامبل (مصباح عاصي)

نبدأ من عنوان الجولة: تحية إلى جو سامبل. الجميع يعرف مدى احترام زياد لهذا الرجل ومدى تأثّره به موسيقياً. عام 2010، التقيا في بيروت على هامش حفلة سامبل هنا، فتبادلا أطراف الحديث واتفقا على لقاء موسيقي قريب. لكن الموسيقي الأميركي رحل عام 2014 وضاع شيء ما كبير إلى الأبد. منذ «روح خبّر» في الثمانينات إلى آخر أمسياته في النوادي البيروتية، لم يبتعد زياد عن موسيقى جو سامبل. فسجّل نسخته من Soul Shadows واستعاد في أمسياته العديد من مؤلفات الموسيقي الراحل. لكن عنوان الجولة، الذي فيه الكثير من الوفاء والحب والأمانة، لم تستسغه الأكثرية اللبنانية والعربية التي تعيش في الدول التي يمرّ بها قطار الجولة الأوروبية… «كل الاحترام لسامبل، لكن نريد أن نسمع أعمال زياد». هذا التعليق يكاد يكون مشتركاً بين جميع من قطعوا البطاقات من دون تردّد، بالتأكيد، لكن بشيء من الحسرة. في الواقع، سنطمئن الجميع، التحية التي يقدّمها زياد لسامبل ليست كالتحيات المعهودة التي تصدر في ألبوم أو تقدَّم في حفلة. فعادةً تحية لفلان تعني استعادة لريبرتواره دون سواه، في حين أن تحية زياد هي تحية من موسيقاه إلى روح موسيقي كبير تأثر به. فحصة الأسد من البرنامج هي لتحف قديمة وجديدة، معهودة في الحفلات أو نادراً ما تُدرَج في أداء حيّ، بالإضافة، طبعاً، إلى تحية مباشرة لسامبل من خلال أربع مقطوعات تحمل توقيع الأخير تأليفاً، ورؤية زياد إعداداً (وإضافات في بعض الأحيان).
تحف قديمة وجديدة، إضافة طبعاً إلى أربع مقطوعات تحمل توقيع سامبل تأليفاً، ورؤية زياد إعداداً


أما البرنامج ككل، فهو ذاك الذي طالما حلم الرحباني في تنفيذه أمام الجمهور وتردّد دائماً لسببين أساسيَّين: الأول، لأنّ عدداً من المواد الواردة فيه متطلبة جداً موسيقياً، وتحتاج إلى عازفين ذوي مستوى وخبرة غير متوافرة محلياً. ثانياً، الجمهور اللبناني الذي يمكن مراقبة ردّات فعله عند كل محطة في الحفلات ومعرفة ميوله التي يسيطر عليها معياران: الغنائي والقديم. ولهذه الميول عنوان أزلي: «عايشة وحدها بلاك». لا، في أوروبا، الوضع مختلف. إن أجمل ما وضعه زياد الرحباني موسيقياً لا يرضي الذائقة الساعية إلى الترفيه والرقص والتصفيق، بل تلك الباحثة عن المتعة العميقة بصمت. «مهووس»، «أمراض مزمنة داخلية»، «رمادي عا رصاصي»، «تحية إلى باخ»، «القافلة»، «وصّلو عا بيتو»… هذا هو اتجاه البرنامج. وهنيئاً لمن يقدّر هذا النوع من المؤلفات المتينة. تضاف إلى ذلك حصّة مقبولة للأغنيات المنشورة وغير المنشورة، التي ستشارك في أدائها هبة ابراهيم (غنّت في حفلتَي «بيت الدين» الصيف الماضي) وكذلك سلمى مصفي التي تتشارك المسرح مع زياد (في باريس ولندن فقط) للمرة الأولى منذ صدوره ألبوم «مونودوز». من الرعيل القديم أيضاً، ينضم إلى الفرقة أحد أقدم الموسيقيين الذين عملوا مع زياد الرحباني، عازف الساكسوفون توفيق فرّوخ، المقيم في باريس منذ سنوات.

شكل الفرقة أكبر من مجموعة صغيرة وأصغر من «بيغ باند»، نواتها النحاسيات والباص والغيتار والبيانو والإيقاعات

أما باقي أعضاء الفرقة، فهم من ألمانيا وهولندا حصراً، على رأسهم عازف الدرامز «الملك» أرنو فان نيوفنهويزه، الذي انخرط في العمل مع زياد منذ عشرين عاماً تقريباً. هكذا، يمكن اعتبار شكل الفرقة أكبر من مجموعة صغيرة وأصغر من «بيغ باند»، نواتها النحاسيات والباص والغيتار والبيانو والإيقاعات (هاني بدير من مصر)، بالإضافة إلى عازف الأكورديون الألماني الشهير مانفرد لويشتر الذي يحلّ ضيفاً على حفلة برلين فقط. الجانب الشرقي في الفرقة يمثّله رأفت بو حمدان (بزُق)، الذي يرافق الرحباني من بيروت إلى جانب ستيفاني ستيفانو (إدارة الفرقة)، ووسام «الكابتن» جرّاح (مهندس صوت)… وإلى اللقاء في روسيا، الصيف المقبل على الأرجح.