بتنفيذ الاتفاق النووي، أغلقت الجمهورية الإسلامية الباب على 13 عاماً من المد والجزر بينها وبين الغرب، فرضت خلالها على طهران عقوبات كثيرة.
بدأت القصة بعدما قامت إيران، قبيل وصول الرئيس محمود أحمدي نجاد عام 2005 إلى السلطة، بنزع الأختام عن منشآتها النووية، لتبدأ بذلك سلسلة العقوبات ضدها، بهدف إجبارها على وقف تخصيب اليورانيوم، الذي تخلّت عنه طوعاً في اتفاقية "سعد آباد". ومع تطور الأمور وتوسع البرنامج النووي، على مستوى الإنشاءات والتجهيزات والتقنيات، اتسعت رقعة العقوبات لتشمل الموارد المالية والصناعية والبتروكيميائيات وشركات وأشخاصاً. فُرضت لائحة طويلة من قبل مجلس حكام الوكالة للطاقة الذرية، التي أصدرت 12 قراراً ضد إيران، إضافة إلى ست عقوبات من مجلس الأمن على خلفية البرنامج النووي، اثنتان منها تحذيريتان وأربع ضمّت قائمة عقوبات بسبب عدم الالتزام بوقف تخصيب اليورانيوم، وأُدرجت القرارات تحت بند في الفصل السابع. كذلك، كانت هناك العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي، بالتبعية للولايات المتحدة التي فرضت عقوبات رئاسية على إيران وأخرى عبر الكونغرس.
عندما دخلت الجمهورية الإسلامية في المراحل النهائية للتفاوض، كان الحديث يجري فقط عن العقوبات التي فرضت على خلفية نووية. هنا تجدر الإشارة إلى أنه في طهران لا يحبذون استخدام كلمة "العقوبات"، بل يستخدمون "تحريم" أي "الحظر"، وبالتالي، فإن العقوبات الدولية أو الحظر الدولي الأحادي والأممي جرى إلغاؤه بفعل الاتفاق النووي.
شملت المباحثات كافة مفاصل المشروع النووي غربياً، وكافة أشكال الحظر إيرانياً، وكان العمل بالمقترح الروسي "گام به گام"، أو "خطوة بخطوة" هو مفتاح الحل السحري لعملية التفاوض، فتم الاتفاق على أن يكون حجم ما ستقدمه طهران على طاولة التفاوض من حجم ما ستأخذه من السداسية الدولية، وتمحور الحديث حول ما فُرض على خلفية نووية فقط.
تحذيرات من التوغّل في الداخل الإيراني، فاللعب صار مكشوفاً

وعليه، فإن الأموال الإيرانية المحررة، ورفع شركات نفطية وغير نفطية ومصارف وأشخاص عن لائحة العقوبات، يعدان إنجازاً لطهران، فيما يرى الغرب أنه منع حصول إيران على القنبلة الذرية وخفّض من حدة برنامجها النووي. الحل يرضي الطرفين المتفاوضين، مع بقاء أصوات معارضة داخلياً لدى الجانبين. ولكن الاتفاق أُنجز وأُغلق الملف النووي، على أمل عدم حصول خروقات بفرض عقوبات أو عودة بعضها في حال حدوث خلاف في تفسير بعض بنود الاتفاق، وهو أمر مستبعد.
تبقى الملفات الأخرى، والعقوبات المفروضة على الجمهورية الإسلامية من قبل واشنطن والاتحاد الأوروبي، وهي في غالبها أحادية تطاول موضوع حقوق الإنسان ودعم ما يوصف "بالإرهاب "، بحسب التسمية الأميركية التي تعتبر حركات المقاومة، المدعومة إيرانياً، حركات "إرهابية "، علاوة على الملف الصاروخي.
لم تشمل المفاوضات هذه الملفات، ولم تقترب منها، ذلك أن القرار الإيراني كان ببحث الملف النووي حصراً، وليست مهمته حل كافة المشاكل العالقة مع واشنطن بالتحديد؛ فدعم حركات المقاومة غير قابل للتفاوض، لأنه يجسد ركناً أساسياً من عقيدة الجمهورية الإسلامية، القائمة على دعم "المستضعفين". وحمل شعار دعم القضية الفلسطينية، الذي يجب عدم المساومة عليه، فلأنه لا خلاف على هذا الملف الذي لا يحسم حتى بالحرب. ومن هنا، يمكن الإشارة إلى اعتقال عناصر البحرية الأميركية، قبل أيام على تنفيذ الاتفاق، وذلك للدلالة على عدم الرضوخ للأهواء الغربية وبعث رسالة إلى العالم تعني أن إيران وقّعت على الاتفاق من موقع قوة.
أما المشروع الصاروخي، فهو شأن سيادي إيراني، وما دام الاتفاق الدولي حظّر إنتاج صواريخ إيرانية تحمل رؤوساً نووية، فهو بالتالي سحب من طهران الذريعة بعدم تطوير برنامجها الصاروخي، لأن العالم اعترف بأنها لا تسعى إلى امتلاك سلاح النووي، وبذلك لن تكون وجهة استخدام الصواريخ نووية. وقد تمّ اختبار صاروخ "عماد" البالستي، البالغ مداه 1700 كلم، في أوج المفاوضات وفي أكثر اللحظات حساسية، ليبعث رسالة واضحة مفادها أن القدرات الصاروخية غير قابلة للتفاوض، حتى لو كان الثمن ترك المباحثات وإنهاءها. والعقوبات الأميركية الجديدة على البرنامج الصاروخي الإيراني لا تخرق الاتفاق النووي بشكل مباشر، ولكنها تخالف روح الاتفاق الداعي إلى عدم فرض عقوبات جديدة على إيران. وبما أن الاتفاق يضم فقرة تتعلق بمنع إنتاج وتطوير وإطلاق صواريخ مصمّمة لحمل رؤوس نووية، فإن الخلاف يدور على التفسير، ذلك أن إيران ترى هذه الصواريخ دفاعية، فيما الولايات المتحدة تجد فيها تهديداً وتحدياً.
من جهة أخرى، تبقي الولايات المتحدة ملف دعم الإرهاب ورقة ضغط على إيران، فهي تبقي على بعض المصارف، كمصرف "أنصار"، وكليات عسكرية، ككلية "الإمام الحسين العسكرية"، وأسماء شخصيات، على رأسها اللواء قاسم سليماني، على قائمة العقوبات، إضافة إلى مؤسسات تابعة للحرس الثوري، منها "مؤسسة خاتم الأنبياء"، التي تقوم بالعديد من المشاريع وآخرها مشروع مصافي النفط في منطقة "بارس جنوبي"، والتي افتتحها الرئيس الإيراني حسن روحاني قبل أيام.
وفي هذا الإطار، يعني القرار الرئاسي الأميركي الذي وقّعه باراك أوباما رفع القيود المرتبطة بالنشاطات النووية، والتي طالت الصناعات المالية والنفطية والغازيّة والبتروكيميائية والنقل والمعادن، إضافة إلى صناعة السيارات. كذلك فإن الولايات المتحدة أزالت مئات الأفراد والشركات من اللائحة السوداء، التي كانت عرضة لتجميد أصولها، وغيرها من العقوبات. وتتضمن الخطوات الأميركية إنشاء تراخيص خاصة تسمح للمصنّعين الأميركيين ببيع طائرات النقل المدني لإيران التي تملك أحد أقدم أساطيل النقل في العالم، والتي تحتاج إلى حوالى 400 إلى 600 طائرة جديدة. كذلك فإن الولايات المتحدة تسمح باستيراد السجاد الإيراني، إضافة إلى الفستق والزعفران والكافيار، وتسمح للفروع الأجنبية، التابعة للشركات الأميركية، بالقيام بأعمال في إيران، ولكن في ظل قيود محددة، وهو إجراء يمكن أن يؤدي إلى بيع المنتجات الأميركية بطريقة قانونية. وأمس، أعلن في طهران عن عودة الاتصالات بین المصارف الإیرانیة وشبکة SWIFT للتحويلات المالية "من دون ای تمییز".
أما أوروبياً، فإن تطبيق الاتفاق يعني أن يقوم الاتحاد الأوروبي بإلغاء القيود المفروضة على التجارة والاستثمار في مجال النفط والبتروكيمائيات والمعادن والنقل البحري وبناء السفن وصناعات وسائل النقل الأخرى، وكذلك المصارف والتأمين والخدمات الأخرى ذات الصلة، بما في ذلك قدرة إيران على تحويل الأموال إلى الخارج. ويرفع الاتحاد الأوروبي الحظر عن التأشيرات ويبطل تجميد أصول الشركات والأفراد المرتبطين بالصناعات المذكورة أعلاه، وأيضاً أصول أخرى تتعلق بنشاطات مرتبطة بالبرنامج النووي والأسلحة، والصواريخ البالستية.
أنهت إيران مرحلة من التأزم أثّرت عليها اقتصادياً، وحملت معها ظروفاً صعبة، حاولت خلالها تحويل التهديد إلى فرص، وهي تعي تماماً أن الانتهاء من الملف النووي ليس مؤشراً على تغيير النظرة العدائية تجاهها من قبل خصومها، كذلك تدرك جيداً أن محاولات ضربها لا تزال مستمرة؛ فالمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي قال للجميع ذات مرة: "إن القضية النووية حجة، والخلاف مع الغرب، خصوصاً أميركا، هو عداء واشنطن لاستقلالنا وسيادتنا". ومن هذا المنطلق، تأتي التحذيرات من التوغل في الداخل الإيراني، فإشهار العداء يلزم الطرف المستهدف بأخذ أقصى أسباب الحيطة والحذر، لأن اللعب يكون مكشوفاً، فيما المهادنة تخفي الكثير من الحيل التي تمرَّر على حين غرة. هذا الموضوع يُدرس بشكل جدي لدى صنّاع القرار في طهران، ذلك أن الانفتاح الاقتصادي على إيران والهجوم الاستثماري قد يحوّلان البلاد إلى سوق استهلاكية في الدرجة الأولى، ويعيدان ربط الاقتصاد الإيراني بالاستثمارات الخارجية، الأمر الذي يجعله ضعيفاً أمام الأزمات، إضافة إلى الوقوع من جديد في شباك الارتهان للخارج.
المعركة الاقتصادية بدأت الآن، ورفع العقوبات سيشكل تحدياً جدياً لطهران، لدراسة سبل عودتها الاقتصادية لتكون سوقاً تنافسية وإنتاجية غير استهلاكية، وهذا ما يترتّب عليه تنفيذ سياسات "الاقتصاد المقاوم" وتفعيله، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال الميزانية المالية التي قدمت إلى البرلمان. إيران لن تعيد السقوط في الخطأ ذاته، لأنها تعرف جيداً أنها في حال اضطرت إلى الدخول مجدداً في نزاعات مستقبلية مع الغرب في ملفاتها الخلافية، كحقوق الإنسان والبرنامج الصاروخي ودعم حركات المقاومة أو ما يوصف غرباً بدعم "الإرهاب"، عليها أن تسحب ورقة الضغط الاقتصادي من أيدي خصومها، وتلعب في ملعبهم من دون الخشية من تأثيرات جانبية، تكون لإيران فيها اليد الطولى في فرض شروطها، وفقاً لمصالحها ومصالح حلفائها.