واشنطن تغاضت عن الظاهرة بهدف زعزعة استقرار الجوار الأميركيون يعمّمون الفوضى، وروسيا حريصة على الاستقرار

على مدار سنوات الوجود الأميركي في أفغانستان، كانت ظاهرة إنتاج المخدرات وتهريبها تتسع باطّراد، حتى بلغ حجم إنتاج الأفيون عام 2018، 6400 طن، وفقاً لما يفيد به جنرال الاحتياط ومدير مركز المعلومات العلمية والتحليلية في معهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، نيكولاي بلوتنيكوف، في حوار مع «الأخبار». يؤكد بلوتنيكوف أن الولايات المتحدة غضّت الطرف عن استشراء هذه الظاهرة، بل ورعتها، ضمن استراتيجيتها القائمة على استخدام المخدرات باعتبارها أداةً من أدوات زعزعة استقرار الدول.
من المحتمل أن يؤدي اتفاق الإطار الذي توصلت إليه الولايات المتحدة وحركة «طالبان» إلى نهاية إحدى أطول الحروب العدوانية الأميركية المستمرة منذ أكثر من 17 عاماً. كان الهدف المعلن لهذه الحرب هو القضاء على تنظيم «القاعدة»، المسؤول عن هجمات الحادي عشر من أيلول، وعلى حركة «طالبان» التي آوته في أفغانستان. إن أدى الاتفاق المذكور إلى انسحاب القوات الأميركية من هذا البلد، فمن المرجَّح أن تتمكن «طالبان» في مستقبل غير بعيد من تسلُّم السلطة فيه. وبما أن معيار الانتصار أو الهزيمة في الحرب هو نجاح الطرف الذي يبادر إليها في تحقيق أهدافه السياسية المعلنة أو فشله في ذلك، ستضاف حرب أفغانستان إلى سلسلة هزائم التدخلات العسكرية الأميركية في العقدين الأخيرين.
منذ بداية هذه الحرب، كان أحد أبرز الاتهامات التي وُجّهت إلى «طالبان»، رعايتها لزراعة المخدرات في أفغانستان وتهريبها للحصول على موارد مالية. لكن اللافت أن إنتاج المخدرات تطوّر باطّراد طوال فترة الحرب، حتى في المناطق الخاضعة لسيطرة القوات الأميركية وحلفائها، فيما زاد تدفق المواد المخدرة نحو الأسواق العالمية، وخصوصاً نحو بلدان آسيا الوسطى وروسيا. ويعتقد البعض في روسيا، ومنهم نيكولاي بلوتنيكوف، أن الولايات المتحدة تغاضت عن تعاظم هذه الظاهرة في هذا البلد. وهو يرى، في مقابلة مع «الأخبار»، أن واشنطن تلجأ عمداً إلى محاولة توظيف المخدرات في عمليات زعزعة استقرار بعض الدول، ومنها روسيا، على الرغم من قناعته بافتقاد الأميركيين استراتيجية جدية في الشرق الأوسط.
لم يمنع استعار الحرب في أفغانستان تحولها إلى مركز لإنتاج 90% من الهيرويين في العالم، ومن إدخال تقنيات جديدة على هذا الإنتاج، ومن تطوير بذور جديدة معدّلة وراثياً. نيكولاي بلوتنيكوف يؤكد أن «مصالح لاعبين كثيرين التقت في إنتاج المخدرات في أفغانستان من الأفيون، مثل: أجهزة مخابرات بعض الدول الأجنبية، وفصائل أفغانية مختلفة، وليس طالبان فقط، وعصابات إجرامية دولية متخصصة في إنتاج المخدرات وتسويقها. وبالتالي عمل كل هؤلاء على خلق الظروف المواتية لزيادة محصول خشخاش الأفيون، إضافة إلى تطوير البذور المعدّلة وراثياً لخشخاش الأفيون، بما يسمح بجني محاصيل كثيرة، مع استخدام المبيدات، والألواح الشمسية لمضخات المياه المستخدمة في الري، واستيراد المواد المساعدة إلى أفغانستان على نطاق واسع، التي من دونها يستحيل الحصول على المنتج النهائي، أي الهيرويين».
ليست لدى الأميركيين أي استراتيجية للشرق الأوسط بشكل عام


مكافحة زراعة المخدرات وتجارتها سياسة رسمية لجميع الأطراف الدولية الرئيسة، فلماذا لم تُعتمَد خطة تهدف إلى القضاء على إنتاج الهيرويين في هذا البلد؟ «لا توجد أي خطة من هذا القبيل أُقِرّت دولياً، مع أنّ من المفترض أن تكون موجودة. ولكن من الضروري قبل كل شيء أن تكون هناك إرادة سياسية من قِبَل المجتمع الدولي كله، وتنسيق للجهود من أجل مكافحة ظاهرة واسعة النطاق، مثل إنتاج المخدرات في أفغانستان، وهذا أيضاً غير موجود. والنتيجة أنه منذ عام 2001، خلال فترة الوجود العسكري الأجنبي في أفغانستان، حصلت زيادة هائلة في إنتاج المخدرات. هنا بعض الأرقام فقط. قبل مجيء الأميركيين إلى أفغانستان في عام 2001، بلغ إنتاج الأفيون 180 طناً. في عام 2015، بلغت المساحات المزروعة بخشخاش الأفيون في أفغانستان 183 ألف هكتار، وفي عام 2016 (201) ألف هكتار، وفي 2017 (328) ألف هكتار، وفي 2018 (263) ألف هكتار. ووصل إنتاج الأفيون في عام 2015 إلى 3300 طن، وفي عام 2016 إلى (4800) طن، وفي 2017 إلى (9000) طن، وفي 2018 إلى (6400) طن. أما الانحسار الذي حصل للمساحات المزروعة، وتراجع محصول الهيرويين في العام الماضي، فقد كان نتيجة لعامل الجفاف الشديد في عدة محافظات. الوضع الحالي كارثي».
هذا الواقع يدفع بديهياً إلى التساؤل عن الغايات الأميركية الفعلية من التغاضي عن تعاظم هذه الظاهرة، وعن احتمال وجود رغبة بتوظيفها من أجل زعزعة استقرار روسيا. «بشكل عام، من الصعب فهم الأميركيين. فهم موجودون في أفغانستان منذ 18 عاماً. لم يتحقق أي نجاح يذكر، والآن تُجرى مفاوضات بين طالبان وواشنطن حول انسحاب القوات الأميركية. وما يحدث هو أشبه بتسليم الأميركيين لحلفائهم المتمثلين بالحكومة الأفغانية، وفرار الولايات المتحدة من هذا البلد». لكن المتابع الجدي للسياسة الأميركية في ما سُمي يوماً «قوسَ الأزمات» لا يمكنه إلا أن يخلص إلى أنها تعمل على تعميم الخراب. فهي قد سبّبت في سوريا وليبيا والعراق فوضى عارمة، ودمرت دولها ومجتمعاتها جزئياً أو كلياً. بحسب بلوتنيكوف، «ليست لدى الأميركيين أي استراتيجية للشرق الأوسط بشكل عام، ولا توجد الآن على وجه الخصوص. فالسياسة الخارجية الأميركية في العالم بأسره تتسم بالتهور، وعدم القدرة على التنبؤ، وتجاهل مصالح البلدان والشعوب الأخرى، واستخدام أساليب العصابات في حل المشاكل الدولية المعقدة، والنفاق المطلق، وانتهاك قواعد القانون الدولي».
روسيا أدّت دوراً رئيساً في تحقيق الاستقرار في سوريا، فهل المصلحة الاستراتيجية تتمثل في منع انهيار الدول في الشرق الأوسط، بينما مصلحة الولايات المتحدة تسريع مثل هذا الانهيار؟ «نعم، صحيح، لقد أدّى بلدنا وجيشنا دوراً مهماً في تحقيق الاستقرار في سوريا. وروسيا جاءت إلى سوريا بناءً على طلب من الحكومة الشرعية لإنقاذ هذا البلد، ودعم السلطة الشرعية فيه، وضرب الجماعات الإرهابية الدولية. وقد تحقّقت تلك المهمات. الآن المهمة الرئيسية للجيش الروسي في سوريا تقديم المساعدات الإنسانية إلى الشعب السوري، ومساعدة أجهزة السلطة في إعادة اللاجئين والنازحين إلى ديارهم. أعتقد أن مواطني سوريا سيتذكرون بكل امتنان جنودنا، الذين غالباً ما كانوا يوصلون إلى الناس المواد الغذائية والأدوية والضروريات الأساسية تحت نيران الجماعات الإرهابية. وسيظلّ في ذاكرتنا الأطباء العسكريون الروس الذين قتلوا بنيران مسلحي القاعدة وداعش، بينما كانوا يساعدون الجرحى المدنيين في حلب ودير الزور، وكذلك مشاة البحرية الذين يحرسون قوافل المساعدات الإنسانية، والذين قتلوا أثناء تصديهم لهجمات من كمائن، وكذلك خبراء إزالة الألغام والمتفجرات الذين أبطلوا آلاف الألغام والعبوات الناسفة. لكن إذا تحدثنا بشكل عام عن مصلحة روسيا في منطقة الشرق الأوسط، فإن أمن حدودنا الجنوبية يعتمد إلى حدّ كبير على الوضع في تلك المنطقة.
لذلك، تدعو روسيا باستمرار إلى ضرورة أن يكون تطور العمليات الدولية في المنطقة على أساس التقيد الصارم بالقانون الدولي، لئلّا تنشب الحروب، ولكي يكون لدى الناس أينما كانوا مكان يعيشون فيه، وتكون لديهم ثقة بالأمن والغد والحياة الكريمة، وأن يكون بإمكانهم الحصول على الرعاية الطبية، وأن يكون بإمكان أطفالنا الحصول على تعليم جيد وعمل لائق، لكي تقرر شعوب الشرق الأوسط بنفسها كيف تعيش، لا أن يملي عليها أحد ذلك. فموسكو، بخلاف واشنطن وعدد من الدول الأخرى، تحتفظ بعلاقاتها مع كافة دول الشرق الأوسط، وتبني علاقات اقتصادية تقوم قبل كل شيء على المنفعة المتبادلة. وبهذا كله، تختلف سياسة روسيا عن تصرفات الولايات المتحدة في المنطقة اختلافاً جذرياً»، يختم بلوتنيكوف.