«نشتغل في جمع الزبالة»، يقولها إبن الأعوام الثلاثة عشر. لا عطلة نهاية أسبوع في «وظيفة» ابراهيم التي تبدأ مع ساعات الصباح ولا تنتهي إلاّ بحلول المساء. يجمع الطفل السوري النازح من حاويات النفايات في بيروت «كلّ شيء»... ما عدا الراحة المؤجّلة والأحلام المعطوبة.قبل ثلاث سنوات امتهن ابراهيم جمع الخردة من حاويات النفايات المفتوحة على جوانب الطرقات في العاصمة وبيعها لصاحب «بورة» لتجميع الخردة في منطقة صبرا. يجمع ما توافر من «بلاستيك، حديد، تنك... زبالة»، وكل ما تقع عليه يداه الصغيرتان من أشياء يمكن أن تزيد من ثقل «النقلة». «حتى الأحد منشتغل». إذ عليه أن يجمع مئة كيلوغرام على الأقل في اليوم، لأن «المئة كيلو تساوي 25 ألف ليرة». هكذا يحسبها كي لا تقلّ «يوميّته» عن المطلوب ليكفي بها حاجيات عائلته. «تسرّبت من المدرسة في سوريا لمعاونة أهلي في العمل. بعد الحرب انتقلنا إلى لبنان وبدأت العمل بجمع الحديد والتنك وغيره». ينتمي ابراهيم إلى «فريق» من الأطفال يعمل بين ساحة ساسين ومستديرة العدليّة. شقيقه صالح يكبره بخمسة أعوام تؤهّله لترؤّس الفريق الذي تجمع أعضاءه صلات قربى عائلية أو مناطقية. ثمة مجموعات أخرى تغطّي مناطق أخرى: السوديكو، الملّا، بشارة الخوري وسواها من شوارع العاصمة.
ينتمي محمد الى المجموعة نفسها. إبن الـ 14 عاماً يحلم بأن يصبح «لاعب كرة قدم محترفاً». شعره الأشقر المجعّد الذي يغطّي جبهته يمنحه «ستايل» لاعبي الكرة العالميّين. احتراف كرة القدم هو حلمه «المتوفّر» في الوقت الراهن. تسرّب من المدرسة للظروف عينها التي أجبرته على العمل في جمع القمامة. يذكر أنّه كان «جيداً في مادة اللغة العربية»، قبل ترك المدرسة في سوريا والبدء بـ«معاونة والدي في جمع البالة هناك». الحرب أجبرته لاحقاً على النزوح إلى لبنان لكنها حوّلته من عامل معاون إلى «صاحب عملي الخاص». يعمل محمد مع شقيقه فوّاز الذي يصغره بعامَين ويسكنان مع العائلة في «مخيّم البرج إلى جانب أولاد عمومتنا». لا تخلو مهنة البحث في حاويات النفايات عن مواد «صالحة للبيع» من المتاعب. «شرطة البلديّة والتحرّي يعترضوننا ويطرحون الأسئلة» يقول الأطفال. كذلك «الدراجون على البسيكلات» (شرطة الدراجات الهوائية في الكورنيش البحري لبيروت). أما الناس «الذين نعمل في شوارعهم فلا يقولون شيئاً. ولا مرة حدا قال شي. البعض يحدثنا حول عملنا، لكن لا أحد يضايقنا».
يجمع الأطفال الغلّة في عربات مصنوعة من حديد أو في مستوعبات بلاستيكية يربطونها بحبال ويجرّونها خلفهم. ينتهي يوم العمل الطويل بمرور «بيك آب» صغير يجمع منهم ما جمعوه خلال اليوم. يضطرون أحياناً، في حال تأخر «البيك أب» عن الموعد، إلى متابعة جرّ عرباتهم إلى مناطق تجمّع أخرى، قبل الوصول إلى المحطّة النهائية في «بورة صبرا» لجمع الخردة. ثمة بؤر أخرى منتشرة في بيروت، تعمل لصالحها مجموعات أخرى من الأطفال. حمودي ومحمد وخالد يشكّلون مجموعة في منطقة زقاق البلاط ويجمعون الخردة لصالح «بورة» في المنطقة نفسها. تتراوح أعمار الأطفال الثلاثة بين 10 و12 سنة، يقسّمون العمل في ما بينهم. اثنان يجمعان التنك لا سيما عبوات المشروبات الغازية الفارغة ويبيعان «الكيلو منها بـ750 ليرة»، بينما يجمع الثالث ما توافر من حديد ومعادن ويبيع الكيلو منها بـ100 ليرة. هكذا يؤدي أطفال نازحون، كغيرهم من العاملين في جمع الخردة، قسطهم من فرز نفايات العاصمة التي لم تبدأ بعد بالفرز من المصدر. ينقل هؤلاء كلّ يوم مئات الكيلوغرامات من الخردة إلى البؤر ويسلّمونها بأسعار زهيدة. من البؤر الصغيرة تنتقل الخردة إلى «بورة» أكبر، لتنتهي عند واحد من مصدّري الخردة الكبار، وعددهم لا يتجاوز السبعة، ممن يصدّرون «السكراب» (الخردة المعدنيّة) إلى الخارج.
«المئة كيلو تساوي 25 ألف ليرة»، هكذا يحسبها كي لا تقلّ «يوميّته» عن المطلوب


بحسب تاجر ومصدّر «السكراب» رشيد كسرواني، يخضع القطاع «للبورصة العالميّة وتختلف أسعاره معها. نستلم الطن الواحد من السوق بنحو 200 دولار حسب نوعيته، ومع احتساب كلفة النقل والتجميع والتصدير والفارق الزمني بين هذه العمليات وتالياً هامش تغيّر البورصة، نصدّر الطن بنحو 250 دولاراً» خصوصاً إلى تركيا قبل أن تقرر الأخيرة في تشرين الثاني الماضي التوقّف عن استيراد «السكراب اللبناني». يوضح كسرواني لـ «الأخبار» أن «القطاع (300 ألف طن في السنة) يشكّل النسبة الأكبر من الصادرات اللبنانية إلى تركيا، أي ما يعادل نحو 90 مليون دولار من مجمل صادراتنا إليها».
لا يعرف ابراهيم أن ما تجمعه يداه الصغيرتان من حاويات ساسين ينتهي في تركيا ويتحوّل جزءاً من مضاربات بورصة عالمية. كل ما يعنيه أن يجمع في اليوم الواحد 100 كيلو من الخردة. لا يستعين بجدول الضرب الذي لم يلحّق حفظه في سنوات التعليم القليلة التي تلقّاها في سوريا. العمليّة بسيطة ولا تحتاج إلى حسابات كبيرة: «مئة كيلو بـ25 ألفاً، مئتا كيلو تساوي 50 ألفاً، والثلاثمئة كيلو تساوي 75 ألفاً...». وهذه «الغلّة الأكبر» في أفضل أيام العمل، إلا أن جمعها يحتاج إلى همّة كل أفراد «الفريق» الذي لا يقلّ عادة عن عشرة أطفال.



السوق التركي المقفل... الأكثر ربحية
في تشرين الثاني الماضي، قررت وزارة التجارة التركية منع استيراد حديد الخردة من لبنان «لاحتوائها على إشعاعات ضارة». إلا أن القرار وُضع في إطار «الرد بالمثل» على قرار لبناني (أيار الماضي) بمنع استيراد بعض البضائع التركية. «الرد» التركي انعكس سلباً على تجارة الخردة، وأدّى الى اعتصامات للعاملين في القطاع في شتورة وطرابلس وسواهما، والى اجتماعات متابعة من الجانب اللبناني منها اجتماع عقد في السراي الحكومي جرى التأكيد خلاله على «أن حديد الخردة يخضع لمراقبة وفحص إشعاعي بإشراف الهيئة الوطنية للطاقة الذرية LAEC، وهو فحص إلزامي يتم بواسطة أحدث المعدات وفقاً للمعايير الدولية».
يتحضّر تجار ومصدّرو «السكراب» لزيارة تركيا والاجتماع بوزيرة التجارة التركيّة روهصار بكجان للبحث في تداعيات القرار وإمكان العدول عنه. اللقاء حُدّد الخميس المقبل، بالتنسيق مع وزير الاقتصاد والتجارة (السابق) رائد خوري، لكن «تشكيل الحكومة وتسلّم الوزير الجديد منصور بطيش مهامه اليوم، أي قبل يومين من الموعد، قد يؤدي إلى تعديله»، بحسب تاجر ومصدّر السكراب رشيد كسرواني. الأخير لفت الى أن القرار التركي «لا يزال سارياً رغم تراجع لبنان عن قرار منع استيراد بعض البضائع التركية». وعزا القرار الى «ازدياد حجم الصادرات اللبنانية من السكراب بنحو 20 في المئة، وربما جرى ربط هذه الزيادة بتهريب السكراب من العراق وسوريا إلى لبنان ومن ثم تصديره إلى تركيا خصوصاً أن الأخيرة تمنع الاستيراد من هذين البلدين لاحتواء السكراب فيهما على إشعاعات، علماً أن ازدياد حجم الصادرات مرتبط بازدياد أعداد السيارات في لبنان وأعداد النازحين». يلفت كسرواني الى أن لا معامل في لبنان تعنى بصهر هذه المعادن، فيما «الأسواق الأخرى غير مربحة، لا سيّما السوق المصري إذ إن الأسعار متدنية وكلفة التصدير مرتفعة».