يعتمد الرئيس السوداني، عمر البشير، على خبرته الطويلة في تهدئة الاحتجاجات المندلعة منذ أكثر من شهر، التحدي الأكبر لحكمه المستمر منذ ثلاثة عقود، مع إبداء المحتجين إصراراً على استمرار التظاهرات التي بدأت تأخذ طابعاً أكثر حدة، وتحولت دوافعها من الأزمة الاقتصادية إلى الاحتجاج على استخدام الذخيرة الحية ضدهم.فعلى غرار جنازة معاوية بشير (60 عاماً) الأحد الماضي (أحد ضحايا الرصاص الحي) التي شارك فيها نحو 5000 مشيّع، شارك الآلاف أمس في تشييع جثمان طالب كلية الهندسة في جامعة السودان الفاتح عمر النمير الذي أصيب بطلق ناري بالرأس في تظاهرات الخميس، وقد ووري الثرى في مقابر أحمد شرفي، في منطقة أم درمان غربي الخرطوم. خرجت الأعداد الغفيرة في تظاهرات عقب التشييع، وأغلقت الشارع الرئيسي في منطقة الثورات وهم يهتفون بسقوط النظام، كذلك أشعلوا إطارات وسط الطرقات، واحتشدوا أمام منزل شرفي في محاولة لمنع قوات الأمن من الوصول إليه.
استمرت الاحتجاجات حتى مساء أمس في مظاهرات ليلية في العاصمة استجابة لدعوات «تجمع المهنيين السودانيين» وتحالفات معارضة. وتجمهر أكثر من ألفي شخص في منطقة الحاج يوسف في مدينة بحري (شمالي العاصمة)، قبل أن تفرقهم الشرطة التي انتشرت في وقت مبكر لمنع التظاهرة المعلنة بالغاز للمسيل للدموع، الذي أطلقته أيضاً لتفريق المتظاهرين في منطقة أمبدة في أم درمان غربي الخرطوم، ما دفع «تجمع المهنيين» إلى الدعوة للخروج في أحياء العاصمة الأخرى لفكّ القبضة الأمنية في المنطقتين. وتجددت الاحتجاجات في وقت سابق أمس في مدينة كسلا شرق البلاد، ومنطقة المعليق وقرى الشيراب في ولاية الجزيرة (وسط).
بدلاً من معالجة الأزمة الاقتصادية ووقف استخدام العنف بوجه المتظاهرين، السببين الرئيسيين لاستمرار الاحتجاجات، يسعى البشير إلى المواجهة بخطوات بدأها سياسياً واقتصادياً، باتجاهين: داخلي وخارجي، قبل أن يتوّجهما أمس بإطلاق «مبادرة لجمع الشمل»، أعلنها حزبه الحاكم (المؤتمر الوطني)، تحت شعار «اختلاف الرأي لا يفسد للود القضية». مساعي الرئيس الاقتصادية بدت خارجياً في تركيزه على حشد دعم دول «صديقة» لحلّ الأزمات الثلاث التي كانت سبباً مباشراً لاندلاع الاحتجاجات، والتي حددها وزير الإعلام بشارة جمعة في حديث أمس إلى وكالة «سبوتنيك» الروسية، بأنها «الوقود والنقود والقوت».
تخشى دول خليجية من سقوط حكم البشير مع غياب بديل إفريقي


يعتمد رئيس البلد، الذي يُعَدّ بوابة إفريقيا، على دول خليجية وعربية بعضها متناحرة، كالإمارات وقطر والكويت والبحرين، بالإضافة إلى مصر وتركيا، في حلّ أزمة المواد الغذائية والوقود والسيولة، وهي على اختلاف مواقفها وتوجهاتها تخشى، وفق مراقبين، من سقوط حكم الرجل في ظل غياب بديل له في منطقة مضطربة أساساً.
في جولته الأولى منذ بدء الاحتجاجات، من المتوقع أن يتلقى البشير من قطر، حيث حطت طائرته أمس منحاً مالية، علماً أن مصادر محلية كانت قد كشفت لصحيفة «السوداني»، بعد يوم من تلقيه اتصالاً هاتفياً من الأمير تميم بن حمد (في رابع أيام الاحتجاجات) أن الدوحة قدمت منحة عاجلة هي مليار دولار. قطر، التي سبق أن قادت وساطة بين الخرطوم والمتمرّدين في إقليم دارفور، لا تُخفي مصالحها في منطقة البحر الأحمر، حيث تسعى تركيا أيضاً لتثبيت وجودها عبر جزيرة سواكن على الساحل الغربي للبحر، فضلاً عن أن السودان بيئة حاضنة لجماعة «الإخوان المسلمون»، المقربة من الإمارة، منذ عشرات السنين.
بموازاة البحث عن دعم خارجي، يركّز البشير داخلياً على دعم القطاع العام حيث يكثر مؤيدوه، وذلك بإدخال منتسبي الشرطة وأسرهم في التأمين الصحي «وصولاً إلى التغطية الشاملة بحلول 2020»، كما أعلنت وزيرة التنمية الاجتماعية، أمل البيلي، ورفع رواتب موظفي الدولة بتطبيق علاوة لسد الفجوة الاقتصادية، اعتباراً من الشهر الحالي، وفق ما أعلن وزير العمل وتنمية الموارد البشرية، بحر إدريس أبوقردة.
وكما في الاقتصاد، يسعى الرئيس السوداني إلى ضرب الاحتجاجات من ميدان السياسة، إذ يريد (داخلياً) التملص من مقتل المحتجين الذين وصل عددهم وفق بيان لـ«الحزب الشيوعي السوداني» إلى 47 متظاهراً (26 وفق الأرقام الرسمية)، أولاً باتهام «مندسين ومخربين» مجهولين، تابعين للأخير ولحركة «جيش تحرير السودان» (فصيل عبد الواحد نور)، بقتلهم من أجل ضرب أمن البلاد، وثانياً تضييق الخناق على وسائل الإعلام في تغطية التظاهرات، عبر تجميد تراخيص صحافيين لوكالات ووسائل إعلام دولية كان «تجمع المهنيين» قد دعاهم إلى التغطية حماية للمحتجين.
أما خارجياً، فيخطب البشير ود الولايات المتحدة وأوروبا، رغم أنه يحمّل الأولى مسؤولية الأزمة الاقتصادية جراء العقوبات التي فرضتها عشرين عاماً، إذ جدد وزير خارجيته، الدرديري محمد أحمد، خلال مخاطبته الاجتماع الوزاري المشترك بين وزراء خارجية الدول الإفريقية ودول الاتحاد الأوروبي، في بروكسل أمس، تأكيد ورغبة بلاده في مواصلة التعاطي مع واشنطن في المرحلة الثانية، وفتح أبواب الحوار مع الاتحاد الأوروبي، علماً أن واشنطن ودولاً أوروبية حذّرت البشير من مغبة استخدام العنف المفرط، وتأثير ذلك في العلاقات معها.