لندن | لم يكد يمضي يوم واحد على مراسم بدء الرئيس الفنزويلي المنتخب، نيكولاس مادورو، فترة رئاسية ثانية (تستمر حتى 2025)، حتى كان جوان جوايدو رئيس الجمعية الوطنية ـــ التي تهيمن عليها المعارضة ـــ يعلن أنه جاهز لتسلم مقاليد السلطة التنفيذية في البلاد، وذلك بعدما وافقت الجمعية التي يرأسها على مشروع قرار اعتبر تكليف مادورو غير شرعي. موقف جوايدو ليس بالجديد، وهو كان أطلق تصريحات مشابهة عشية إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الفنزويلية الأخيرة في أيار/ مايو الماضي، والتي تمخضت عن التجديد لمادورو لفترة رئاسية ثانية. لكن اللافت هذه المرة كان استصدار قرار من الجمعية الوطنية بإلغاء مفاعيل الانتخابات، في مخالفة صريحة لقوانين البلاد، تهدد بإشعال أزمة دستورية عميقة تزيد من المصاعب التي تعيشها الجمهورية البوليفارية، في ظلّ الحرب الباردة الأميركية المستمرة ضدها.مصادر الجمعية الوطنية، التي تعتبر في مقام المنحلّة منذ 2016، قالت إن جوايدو يعكف حالياً على صياغة مشروع قرار ينظم «مرحلة الانتقال إلى الديموقراطية في فنزويلا»، يتضمن حوافز لضباط الجيش الفنزويلي الذين سينقلبون على حكومة مادورو. وقد تعرّض جوايدو، إثر إعلانه هذا، للاعتقال عدة ساعات من قِبَل الاستخبارات الفنزويلية، التي اعترضت قوة منها موكبه واقتادته إلى التحقيق، قبل أن يتدخل الرئيس شخصياً للإفراج عنه، معلناً أن رجال الاستخبارات تصرفوا من دون الرجوع إليه، وأنه لا يقبل بأقل من سريان القانون على الجميع.
لكن الأمور تسارعت بشكل غير متوقع، في ما بدا أشبه بأوركسترا منسقة تعزف لحن انقلاب أميركي معلن. إذ سارع لويس ألماجرو، الأمين العام لـ«منظمة الدول الأميركية» ـــ وهي تجمع لدول أميركا اللاتينية الموالية لواشنطن ـــ إلى الترحيب بإعلان جوايدو، خالعاً على الأخير لقب «الرئيس الفنزويلي المؤقت»، بينما اتصل به هاتفياً مايك بنس، نائب الرئيس الأميركي ليشيد بـ«روح القيادة» التي عبّر عنها الإعلان، ويتبعه جون بولتون، مستشار الأمن القومي وأشد صقور الإدارة الأميركية عداء للثورة البوليفارية، الذي غرّد داعياً الجيش الفنزويلي إلى «التحرك لتنفيذ حكم القانون»، وكذلك مايك بومبيو وزير الخارجية، وماركو روبيو (السيناتور عن فلوريدا) الذي دعا الرئيس دونالد ترامب إلى الإقرار بجوايدو «رئيساً انتقالياً شرعياً».
ومن شأن إقرار كهذا من الإدارة الأميركية أن يتسبب في تصعيد خطير يدفع نحو حرب أهلية دموية؛ إذ إنه يعني منح المحاكم الأميركية سلطة تحويل الأموال التي تجنيها الحكومة الفنزويلية الحالية من تجارة النفط، إلى حكومة متمردة تدعمها واشنطن وحلفاؤها، الأمر الذي من شأنه حرمان الدولة الفنزويلية من 75% تقريباً من دخلها، وتعريض 25 مليوناً من المواطنين للمجاعة. وبالفعل، نقلت قناة «CNN» الأميركية عن ثلاثة مصادر منفصلة لم تسمّها، أن إدارة الرئيس ترامب تنظر بالفعل في قرار الاعتراف بجوايدو رئيساً شرعياً لفنزويلا، وفرض مزيد من العقوبات الاقتصادية الخانقة على نظام مادورو.
أعلن مادورو عن أكبر مناورات عسكرية ـــ مدنية في تاريخ البلاد الشهر المقبل


روسيا، وعلى لسان وزير خارجيتها سيرغي لافروف، وصفت الإشاعات الأميركية عن إمكان الاعتراف بجوايدو بأنها «تثير القلق»، بينما عرضت المكسيك ـــ التي تولى مقاليد السلطة فيها أخيراً رئيس يساري التوجهات ـــ التوسط بين الحكومة والمعارضة، في ما بدا أنه تحول هام في الموقف الرسمي المكسيكي، الذي كان خاضعاً إلى وقت قريب للتوجيهات الأميركية. من جهتها، هاجمت سلطات كاراكاس الجهود الأميركية المعلنة لتنفيذ انقلاب على الحكومة الشرعية للبلاد. ووصف خورخي أريازا، وزير الخارجية، تصريحات نظيره الأميركي بأنها «تدفع إلى زعزعة الأمن وإثارة القلاقل والعنف»، في الوقت الذي يستمر الرئيس مادورو في دعواته إلى الحوار، معتبراً أن هذه المحاولة الانقلابية «هدفها إسقاط النظام البوليفاري من خلال خنقه اقتصادياً».
الرئيس مادورو، الذي كان دعا الأمم المتحدة إلى حماية الديموقراطية في بلاده من دون أن يلقى آذاناً صاغية، دان «بهلوانيات» اليمين، الذي يستمر في «السعي للقفز إلى السلطة من خلال المغامرات المفتعلة والانقلابات المغلفة بطبقة دهان دستوري رثّ». وهو أعلن، في المقابل، عن إجراء أكبر مناورات عسكرية ـــ مدنية مشتركة في تاريخ فنزويلا خلال الأسبوع الثاني من شباط/ فبراير المقبل، في ما بدا أنه رفع لجاهزية الجيش والميليشيات الثورية الفنزويلية التي تستهدف مواجهة حدوث غزو خارجي أو انقلاب داخلي، على صيغة سانتياغو 1973.
جوايدو يعلم تماماً أنه، وعلى رغم تأييد السلطات الأميركية لإعلانه، إلا أنه من دون دعم الجيش الفنزويلي أو على الأقل قطاعات رئيسة منه، فإنه سيكون لقمة سائغة في يد اليساريين الفنزويليين المتعطشين لدفع السلطة البوليفارية نحو اليسار. ولذا، فهو لم يتسرع بقبول المنصب الذي خلعه عليه الأمين العام لـ«منظمة الدول الأميركية»، منتظراً ردود الفعل.
إذاً، تتجه الأمور في كاركاس نحو مزيد من التأزم، ويُخشى أن تتطور يوم غد الأربعاء نحو مواجهة في الشارع، إذ يحشد مؤيدو الحكومة ومعارضوها لمسيرات شعبية خلال عطلة الاحتفال بذكرى سقوط ديكتاتورية بيريز جيمينيز (1958)، يتوقع مراقبون أن تتسبب باحتكاكات في غير نقطة من العاصمة وخارجها. لكن حتى لو مضت المناسبة من دون حوادث كبرى، إلا أن النوايا الأميركية تجاه هذا البلد باتت معلنة، ولم يعد هناك شكّ مطلقاً في أن إدارة الرئيس ترامب قد لا تعبأ بسفك دماء ملايين من الفنزويليين إذا تطلب الأمر، لا سيما إذا كانت تلك الطريقة الوحيدة للقضاء على الثورة البوليفارية.