«لو ما عندي شغل في طرابلس ما بروح عليها». هذه العبارة يكاد يردّدها اليوم كل مواطن قاصد للمدينة من خارجها، إلى درجة أن من ليس لديه عمل ما في عاصمة الشمال (وظيفة أو مكتب خاص أو محل تجاري أو إنجاز معاملة رسمية أو غير ذلك)، تجده يلغي زيارته لها من برنامجه اليومي نهائياً.
الهاجس الأمني يأتي في رأس أولويات عزوف غير الطرابلسيين عن زيارة المدينة، أو لعله السبب الوحيد بالنسبة إلى كثيرين، مع أن شرائح واسعة منهم عاشت في طرابلس سنوات عديدة، وأغلبهم يساورهم حنين كبير إلى تلك السنوات، لكن المخاوف الأمنية جعلتهم ينأون عن زيارتها، وهم يردّدون المثل الشائع: «البعد عن الشر غنيمة».
اختيار غير الطرابلسيين أهون الحلول لديهم، وهو الابتعاد عن المدينة. لكن ليس بمقدور كل أبناء المدينة اتخاذ قرار كهذا، فهؤلاء ومعظمهم من متوسطي الدخل والفقراء، ليس بمقدورهم أن يحزموا حقائبهم ويغادروها إلى منطقة لبنانية أخرى، أو إلى خارج لبنان، كما فعلت قلة من أبناء الفيحاء من طبقة الأثرياء المرتاحين مادياً.
منذ وقوع تفجيري مسجدي التقوى والسلام في 23 آب من العام الماضي، باتت الإجراءات الأمنية الاحترازية الشغل الشاغل للطرابلسيين بمختلف فئاتهم، مع أن هذه الإجراءات كانت موجودة في السابق، لكنها ارتفعت بعد ذلك.
مساجد المدينة أصبح محيطها أشبه بثكن عسكرية، وخصوصاً خلال صلاة الجمعة، بحيث تمنع أي سيارة من الركون قربها من قبل عناصر الجيش والقوى الأمنية أو عناصر حماية المساجد، ما دفع كثيراً من المواطنين الى عدم أداء صلاة الجمعة في مساجد يرونها «مستهدفة» من وجهة نظرهم، أو حتى عدم أداء الصلاة أصلاً، وتأديتها في بيوتهم، ما جعل رواد المساجد يتراجعون على نحو لافت.
البيوت أصبحت الملاذ الآمن والوحيد لأهالي المدينة، أقله في الظاهر، إذ حالما يعود الأبناء من مدارسهم وجامعاتهم بعد الظهر يبقون فيها لليوم التالي، ولا يخرجون منها إلا للضرورة القصوى، وهو أمر ينسحب أيضاً على الموظفين والعمال والتجار ومختلف الشرائح. يكفي هذا لشل المدينة.
مع اقتراب ساعات المساء يتضح حجم الشلل والموت السريري الذي تعانيه طرابلس، إذ تخلو الشوارع من السيارات والمارة على نحو يخيل للمرء أن طرابلس تعيش حالة حظر تجول، ونادراً ما يجري العثور على محل يبقي أبوابه مفتوحة بعد السابعة مساءً، باستثناء بعض المقاهي في مناطق حديثة في المدينة، بعيداً عن مناطق التوتر التي تقفل أبوابها عادة مع حلول ساعات المساء.
الخوف الأمني يدفع بعض المواطنين إلى اتخاذ أقصى درجات الحذر، مثلما عبر أحدهم بقوله: «عندما أخرج من منزلي أبتعد عن الاقتراب من الشوارع المزدحمة والمساجد وبيوت السياسيين، وفي الليل عندما أخرج بسيارتي، فأول ما أقوم به هو إقفال أبواب السيارة من الداخل بعد تكاثر حوادث السرقة».
في اليومين الأخيرين دبّ الهلع في أوساط الطرابلسيين على نحو واسع، بعد شائعات انتشرت كالنار في الهشيم عن دخول سيارتين مفخختين إلى المدينة، ما جعل منسوب القلق يرتفع بينهم، ويدفعهم إلى المزيد من الحذر.
في الفترة الأخيرة باتت الشائعات خبز الطرابلسيين اليومي، التي يستخدم من يطلقها وسائل التواصل الاجتماعي في نشرها، من غير التأكد من صحتها أو عدمه، وهو ما أكده أحدهم أمس بقوله: «تكفي شائعة تبث عبر «الواتس أب» حتى تصاب طرابلس بالشلل»، ضارباً على ذلك مثلاً بما حصل صباح أمس، عن خبر تناقلته وسائل التواصل الاجتماعي عن تجمّع مسلحين في ساحة النجمة، وأنهم يستعدون للهجوم على أحد المواقع في منطقة الأسواق، قبل أن يتبين أن الخبر لا أساس له من الصحة، وأن التجمّع كان لتجار وعاملين في المنطقة كانوا يتفقدون الأضرار التي خلفتها الاشتباكات الأخيرة وراءها في المنطقة. ما تشهده المناطق الشعبية في طرابلس من قلق أمني ينسحب أيضاً على الأحياء الحديثة فيها. «لم نعد نرى وجوهاً غريبة كان يزدحم بهم المقهى في السابق، كل زوّارنا أصبحوا من جيراننا». على هذا النحو يشرح أحد العاملين في مقاهي شارع الميناء في طرابلس، الوضع في مقاهي الرصيف التي تكاثر روّادها في السنوات الأخيرة.