مختلفة صباحات «أم حسن» عن سابقاتها. باتت «نوبات القلق» تحتل ساعات الصباح المعدودة من يومها، التي يغادر فيها زوجها إلى عمله، وأبناؤها الثلاثة إلى مدرستهم في الهرمل، فيختلج صدرها سؤال «هل هو وداعهم الأخير؟». وسرعان ما تبدد كل ذلك بالدعاء لهم «لإبعاد اولاد الحرام عنهم».
هكذا تحاول نورا حسام الدين، بعد التفجيرين في المدينة، تبديد هاجس الخوف والرهبة من انفجار جديد قد يعرّض عائلتها أو جيرانها وأصدقائها للأذى، فتضبط مواقيت راحتها على موعد عودة العائلة إلى كنف المنزل واجتماعهم فيه. لا تنكر «أم حسن» مشاعر خوفها وقلقها: «أنا إنسانة وأم بالنهاية وعندي مشاعر على عائلتي وجيراننا، إن شاء الله ما بقى يتأذى حدا»، لكنها في المقابل تردف: «نحن صامدون، وسوف نتابع حياتنا واللي الله كاتبه رح يصير».
الهرمل، تلك المدينة ـ القرية، استهدفت على مدى عام تقريباً بأكثر من 170 صاروخ «غراد». ثم بتفجيرين انتحاريين. كل ذلك كان كفيلاً بتبديد نمط حياة اعتاده الهرمليون. «ما في اليوم عنتريات، في ناس عم تموت بسبب الفكر التكفيري والإرهابي» يقول كهيل حمادة، الذي نجا وعائلته بأعجوبة من تفجير محطة الأيتام للمحروقات. في رأي الرجل الستيني أن «الحياة ستستمر، وما فينا نقعد بلا شغل وبدون وظيفة وبدون تعليم أولادنا، لكن بات لزاماً على أهالي الهرمل إعادة ترتيب حياتهم، إلى حين التخلص من هالمشكلة اللي ما عم توفر حياة الصغير قبل الكبير».
على مسافة ثلاثة أيام من التفجير الثاني في الهرمل، شرعت المدينة في احتواء جرحها، الذي لم يوفر الحياة الاجتماعية فيها أو الاقتصادية أو حتى التربوية. كثير من الزيارات الاجتماعية تقلصت، بحسب نايفة، التي لم تعد حياتها اليومية كما كانت سابقاً: «ما عاد في زيارات ولا حتى سهرات متل الإيام الماضية». بات يقتصر الخروج من المنزل من أجل توفير متطلبات العائلة، والعودة إلى المنزل سريعاً. ابنة نايفة، آية قانصو، تعيش حالياً «تحت عنوان القلق والخوف، لكن بعد ساعات قليلة من أي تفجير، سواء كان انتحاريا أو بالصواريخ، تعود الحياة إلى طبيعتها، مع بعض الترتيبات التي باتت ضرورية، وبعد «هيك اللي بيجي من الله يا محلاه. ويمكن يكون ربنا اصطفانا ببلاء معين ولا اعتراض على حكمه». في المدارس لا يمكن تعديل نمط نشاطها كثيراً لمواجهة التحديات. ليس في جعبة إداراتها سوى تنظيم أمور دخول وخروج الطلاب على نحو مدروس، ومحاولة استبعاد التدريس في القاعات القريبة أو المطلة على الطرقات. لا يمكن أن تتعطل حركة خروج الطلاب وعودتهم.
في الهرمل ثمة مطاعم ومقاهٍ بصالات شتوية، جهد أصحابها في تجهيزها والإعداد لاستقبال الرواد فيها، للتعويض عن موسم الصيف المنصرم، الذي كان «كارثياً بامتياز»، لكن تلك الصالات والمقاهي خلت من روادها المنتظرين، وباتت المحالّ التجارية التي تختص بتركيب الألمنيوم والزجاج هي الوحيدة التي تعمل، إضافة إلى محالّ الخضار والمواد الغذائية فقط. هذا ما يقوله ابن الهرمل علي الساحلي.
في بيوت الهرمل ترتفع نبرة التحدي والصمود. وجهات نظر تتناحر بين المتسامرين. البعض ينتقد غياب الإجراءات الأمنية الفاعلة، فيما البعض الآخر يرى أن «الانتحاري الإرهابي رايح يموت ويفجر نفسه كيف ما كان، وبمين ما كان، ولن تردعه إجراءات أو تدابير». تطول النقاشات في المحال التجارية، والمنازل وحتى الإدارات الحكومية في المدينة، ومنها اعتبار من يقتل بنتيجة التفجير «شهداء ومظلومين أيضاً». علي جعفر يرى أن «شهداء تفجيري الهرمل، كالمجاهدين في المقاومة، وأكثر من هيك هم ماتوا مظلومين»، مستنداً في حديثه إلى قول النبي محمد «الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله».
الهرمل بدأت تشهد نمط حياة جديداً، على وقع تدابير احترازية ووقائية بدأت الأجهزة الأمنية وبلدية الهرمل باتخاذها. يلفت رئيس بلدية الهرمل صبحي صقر إلى التدابير التي تناولت «التنسيق التام مع سائر الأجهزة الأمنية، والطلب إلى قيادات تلك الأجهزة زيادة عدد أفرادها في المدينة مع مقومات عملهم الأساسية، إضافة إلى مطالبة وزارة الداخلية والبلديات بزيادة عديد الشرطة البلدية». ليس هذا فحسب، ومن ضمن الخطة الجديدة «وضع عوائق أمام سائر المؤسسات العامة والخاصة، وحتى المدارس والمحطات، مع وضع كاميرات مراقبة بالتعاون مع القوى الأمنية».