دمشق | لن نجد خطاً فاصلاً بين سيرة يوسف عبدلكي (1951) التشكيلية وسيرته الحياتية. هناك تمازج أصيل بين السيرتين، عنوانه العناد والنبل والنزاهة. هو لم يحد يوماً عن اقتناعاته الفكرية ولم يساوم عليها، ولم يخذله قلم الفحم في هتك طبقات الجحيم، وألوان العار، وأرشيف العسف. سيرة نموذجية لمن اختار الذهاب إلى الضفة المضادة بفواتيرها الباهظة. هكذا، افتتح القوس من مدينته القصيّة القامشلي، حاملاً على كتفيه ميراث أب شيوعي ستاليني، سُجن 12 مرّة. لذلك، لن نستغرب أن يعيد الابن سيرة الأب، بانتسابه إلى حزب شيوعي محظور. كانت السبعينيات جنّة اليسار المؤجلة، لجهة الحلم ببزوغ شمس أخرى، من قلب الظلام، قبل أن يطيح القمع والعسف والمعتقلات أحلام هذا الجيل، ليعيش انكساراته المتلاحقة. وكان ليوسف حصته من المطاردة والسجن والمنفى.
هكذا غادر البلاد إلى باريس مطلع الثمانينيات برأس محشوّ بالأحصنة المتمرّدة.
هذه المفردة التشكيلية التي رافقت تجربته طويلاً، قبل أن يكتشف ببهاء وبذخ ورصانة، أنّ روح الجمال نائمة في الأشياء المهملة، وأنّ المقاومة الصلبة ليست في صرخات الاحتجاج، بل في إدراك أهمية العناصر التي لا تسترعي الانتباه، مثل تفتح برعم صغير في غصن مقصوف، أو في فردة حذاء، أو في آنية زهور، فيما يعوض خسارته الأخرى في الاشتغال على مفردة «السمكة»، سواء كانت على شكل رأس مقطوع، أو في طبق، أو في جمجمة بهدف كشف حجم الدمار الذي يحيق بأرواح الكائنات، والمصير التراجيدي الذي آلت إليه هذه الأرواح، في عالم قائم على الفزع والتدمير المنهجي للداخل، بتحويله إلى مجرد هيكل عظمي.
رهان عبدلكي الأساسي نشأ من إعلاء شأن ما هو متروك جانباً، فالعنصر الذي يسيطر على فضاء اللوحة بمفرده، يشكّل إحالة بصرية صريحة، إلى حياة كانت تنبض قبل قليل في هذه المساحة الصامتة. هناك ما هو مؤجل على الدوام، تقترحه ظلال الأبيض والأسود بأطياف لامرئية، تتكثّف بإيماءة صغيرة، تذهب باتجاهين متناقضين، هما الحضور والغياب، مثل السكين الحادة التي قطعت رأس السمكة، أو وحشية السمكة ذاتها وهي تواجه مصيرها المحتوم. أسماك هذا الغرافيكي السوري المتفرّد ليست مجرد مناظر صامتة، وإنما تحيل إلى الفضاء الذي كانت تسبح فيه، قبل أن تختنق في صندوق أو علبة سوداء كتيمة. في السياق السردي ذاته، يمكن رصد العناصر الأخرى، لكن من زاوية شعرية صرفة، وخصوصاً في ما يتعلق بمجموعة الأحذية النسائية وتشكيلاتها البصرية المتعددة. رغم دقتها الواقعية، إلا أنّها تحيل إلى نص يحتشد بالشهوة ووطأة الغياب، كأنّه باشتغاله على الهامش، يسعى بإصرار إلى إزاحته نحو المتن والتحكم بالمركز عبر الحذف والاختزال اللذين هما روح هذه البلاغة التشكيلية، من دون إهمال جوهر المعنى.
لم تفقده باريس روحه المتمرّدة، أو نبرة العصيان في كائناته الميتة، أو نبرته الشرقية. واظب بدأب على تطوير تقنياته، وشحن أعماله بدفق شعري تسلل بمهابة من منطقة الظل، ذلك أنّ رهافة قلم الفحم لا تتوقف عند بهجة الاكتشاف والرصد والمعاينة، بل تحلّق عالياً في إعادة الاعتبار إلى الفراغ، والمراهنة على إضاءة الكتلة المركزية بخطوط صارمة ومتقشفة، تمنحها بريقاً إضافياً، وتكشف عن إيقاعاتها الداخلية. ووفقاً لما يقوله الفنان المصري عادل السيوي، فإن هذا التشكيلي «طبّاخ ظلال ماهر يعرف أولاً تلك المنطقة التي تشعل الظلال فيها العواطف وتخطف العين، لكنه يدرك أيضاً أين تقع تلك النقاط التي يشتبك عندها النور بالظلمة، بعيداً من تصادم الأضداد». الآن، بوسعنا استعادة صورة البحرة التي تتوسط خان أسعد باشا وسط دمشق القديمة. كان الحدث هو إقامة معرضه الأول بعد عودته من منفاه الباريسي (2005). قرّر أن يملأ البحرة باللون الأحمر كجزء أساسي من سينوغرافيا المعرض، لعلنا لم ننتبه حينذاك جيداً، إلى تلك النبوءة المفزعة، وأن دمشق ستغرق في الدماء، حقيقةً وليس مجازاً. وإذا بالأحمر يقتحم أعماله اللاحقة بكل شراسته، مترافقاً مع اللهب السوري. ربما كان يوسف من بين قلائل لم تفاجئه مطحنة الموت. لطالما نبّه بحزمٍ إلى قرب هلاكنا المقبل في ولائم الطيور الميتة، والجماجم، والأسماك المثبّتة بالمسامير والحبال، والسكاكين المغروزة بعنف، والأزهار الذابلة، والتوابيت. ها هو في أعماله الجديدة يضيف عناصر بشرية إلى وليمته: بشر برؤوس مقطوعة، وشهداء، وقديسون، ومفقودون، ودماء تسيل على الجدران، أو من آنية زهور، أو من طبقٍ فارغ، مستعيناً بعبارات مقتبسة من أغنيات شعبية، بما يشبه المراثي الجماعية، أو النحيب الصامت، أو طقوس الندب. هكذا ذهب إلى توثيق تراجيديا الموت بوصفها «حادثاً مأسوياً بحق الأفراد». وإذا بأرشيف الموتى يزداد قتامةً وثقلاً وأسىً، عملاً تلو آخر في جنازٍ طويل.
نحن إذاً على موعد مع فجيعة تتناسل من العتمة عبر ضربات نزقة في معالجات غرافيكية صارمة تنطوي على قدرة عالية على الإتقان والكثافة البصرية المكتنزة بالإشارات. وراء هذه السكينة المراوغة، والموت المجلل بالصمت والعزلة والسخط، يكمن الجرح المفتوح على أطياف المحنة السورية، كأن عبدلكي لا يغادر لوحته، قبل أن يطمئن إلى مصائر كائناته في عزلتها وجحيمها وتوقها إلى التنفس خارج هذا العالم الكتيم... العالم الذي وصفه الشاعر الفرنسي آلان جوفروا (1928) بقوله: «كل شيء يجري، كما لو أن يوسف عبدلكي يريد إعادة ابتكار العالم وحمايته إلى الأبد من الإهانة، من اللامبالاة، من النسيان».
أثناء إنجاز هذه الأعمال، كان الفنان يحلم بأن يراها جمهوره الدمشقي أولاً «في المكان الذي عشت المخاض السوري الدموي فيه». ونظراً إلى صعوبة تحقيق هذه الرغبة في الظروف الراهنة، اختار بيروت كمكانٍ بديل. لم يختر اسماً للمعرض الذي تحتضنه «غاليري تانيت» بدءاً من اليوم (راجع المقال المقابل)، اكتفى بتاريخ إنجازه «2011- 2013»، فالسنوات الثلاث هذه، لا تشبه ما قبلها أو بعدها. لماذا بيروت؟ يجيب «أعتبر الأمر بديهياً، ربما لأن بيروت شهدت عواصف الدم في العقود الماضية. ربما لأنها إحدى أهم علامات الحداثة العربية. ربما لأنّ كلمة الحرية كانت دوماً مكلّلة بالغار فيها، ربما لأنّ لديّ فيها أصدقاء حقيقيين أعتبرهم جزءاً من نبض حياتي. وربما لكل تلك الأسباب مجتمعة».



«معرض يوسف عبدلكي 2011 ـ 2013»: بدءاً من اليوم حتى 5 آذار (مارس) المقبل ــ «غاليري تانيت» (مار مخايل ـ بيروت) ـ للاستعلام: 76/557662 ـــ على موقعنا «ثلاثة أسئلة إلى يوسف عبدلكي»