بقوة الحديد والنار فرضت السلطات السعودية إرادتها على أهالي حيّ المسورة، في منطقة العوامية التابعة لمحافظة القطيف، في المنطقة الشرقية. أزيلت معالم الحيّ بأكملها، لتحلّ محلّها أبراج وأسواق ومتنزهات، في نموذج مصغّر لما يحلم به ولي العهد، محمد بن سلمان، بتحويل المملكة إليه. إنها «العوامية الجديدة». «مركز حضاري وثقافي واجتماعي يستهدف جذب الاستثمارات والسياح، وخدمة سكان القطيف» وفق الترويج الرسمي المستمرّ منذ مطلع الأسبوع الجاري، حيث أعلنت «أمانة المنطقة الشرقية» الانتهاء من «مشروع تطوير وسط العوامية». هكذا، تسدل السعودية الستار على مشروع استئصالي، استهدف طمس مآثر المنطقة، وتبديل هويتها، وإنهاء أي طابع ثوري فيها. إنه مجدداً الثأر من الأماكن، الضارب في تاريخ المملكة، ولكن هذه المرة بنَفَس نيوليبرالي «سلماني».بدأت رحلة الثأر تلك في أوائل أيار/ مايو 2017، عندما أطلقت السلطات حملة محمية عسكرياً لهدم حيّ المسورة، العائد بناؤه إلى ما يقارب 400 سنة. حينذاك، لم يكن كل أهالي الحيّ قد استجابوا لدعوة الحكومة إياهم إلى إخلاء منازلهم مقابل تعويضات. على العكس من ذلك، تشبّث الأهالي بما يعتبرونها جذورهم، معلنين رفضهم التخلي عنها، حتى وصل الأمر إلى حدّ اندلاع مواجهات أدت إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى، بعد حصار محكم استمر قرابة 90 يوماً. وعلى الرغم من أن مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان عدّت ما تقوم به السلطات «انتهاكاً»، مطالبة إياها بوقفه فوراً، إلا أن السعودية أدارت الأذن الطرشاء، وواصلت تدمير الحيّ، حتى أتت عليه بالكامل.
إثر ذلك، أعلنت المملكة «الانتصار»، وتفاخر وزير إعلامها (آنذاك) عواد العواد بـ«تطهير حيّ المسورة». وفي أعقاب هذا «الفتح» بخمسة أشهر، انطلقت عمليات «تطوير» الحيّ، الذي كانت السلطات قد ادعت أنه «لا يحتوي على آثار، وهدم المنازل فيه لا يتناقض مع القوانين الدولية والمحلية لحماية التراث والآثار». المفارقة أن الإعلام الرسمي عاد، خلال الأيام الماضية، ليشدد على الطابع التراثي لـ«المسورة»، التي حرص على محو اسمها، واستبدال «العوامية الجديدة» به، ملحّاً على أن الأخيرة «تحاكي التاريخ المعماري للمنطقة»، وهو ما يؤكد أن السلطات لم تفارق فعل التضليل الذي دأبت عليه منذ اندلاع هذه الأزمة. فعلٌ اشتغلت «المنظمة الأوروبية ـــ السعودية لحقوق الإنسان» على تفنيد تجلّياته، مُصدِرةً في الذكرى الأولى لإعلان الانتهاء من تدمير الحيّ تقريراً تناول عدة مغالطات في السردية السعودية، لعلّ أهمها ما يأتي: زعمت السلطات أن «المخطط يهدف إلى التقليل من المخاطر الاقتصادية والاجتماعية والأمنية»، على اعتبار أن «حيّ المسورة تستخدمه الجماعات الإرهابية لإدارة أنشطتها». لكن الحقيقة أن الحيّ، وإن كان يؤوي بالفعل عدداً من المطلوبين، إلا أن هؤلاء كانوا يتوارون في أزقته الضيقة التي لا تستطيع الآليات العسكرية دخولها، خشية مواجهة مصير من سبقهم من مطلوبين بتهمة «التظاهر»، لم يخضعوا لـ«تحقيقات شفافة»، ولم يُمكَّنوا من «محاكمة عادلة»، بل شُهِّر بهم وشُوِّهت سمعتهم، وهو ما يحمل آخرين على رفض المثول أمام جهاز قضائي معطوب في الحدّ الأدنى.
تعتقد السلطات أنها بقضائها على حيّ المسورة، معقل المطلوبين، ستتمكن من إطفاء آخر جذوة للحراك الشعبي، الذي كانت قد تمكّنت من إضعافه بالترهيب والقمع، وصولاً حتى إعدام زعيمه الأبرز (المتحدّر من العوامية أيضاً)، الشيخ نمر النمر، الذي حلّت هذا الشهر الذكرى الثالثة لتنفيذ الحكم بحقه. يشابه ذلك ما اعتقدته سلطات البحرين من أن قيامها بهدم «دوار اللؤلؤة»، رمز انتفاضة شباط/ فبراير 2011، سيسهم في «التخلص من ذكرى سيئة»، على حدّ تعبير وزير خارجية المملكة خالد بن أحمد آل خليفة. لكن الاعتقاد السعودي يبدو، كما الاعتقاد البحريني، نوعاً من الوهم ليس إلا، إذ إن ما أقدمت عليه سلطات المملكة في «حيّ المسورة» أدى إلى مضاعفة شعور أهالي العوامية خصوصاً، والمنطقة الشرقية عموماً، بالغبن، وتزكية الغضب الكامن في نفوسهم على التعامل معهم بمنطق «الفئة الضالة»، و«العناصر الإرهابية»، وفق التوصيفات التي استخدمها كتّاب البلاط أخيراً في تناولهم حادثة بلدة الجش التي وقعت الاثنين الماضي في القطيف. هذه الحادثة نفسها، التي راح ضحيتها 6 شبان ليسوا مدرَجين على «القوائم السوداء» المُعلَنة، تجلّي واقع الحلقة المفرغة التي يدور فيها النظام، والتي ستظلّ مولّدة للاضطرابات ما لم يطرأ تغيّر على السياسات الرسمية.
تؤكد مصادر مطلعة أن «العوامية الجديدة» لا تشتمل على أيّ مبانِ سكنية


يعزز التقدير المتقدم، أنه حتى في ما يتصل بالحدّ الأدنى من الحقوق المفروضة لأهالي المنطقة المُدمَّرة، تبين أن الكلام الرسمي مجرّد وعود عرقوبية. تعهدت السلطات، مع بدء تنفيذ المشروع، بـ«إعادة توطين السكان»، إلا أن مصادر مطلعة أكدت لـ«الأخبار» أن «العوامية الجديدة» لا تشتمل على أيّ مبانٍ سكنية، بل تقتصر على الصروح ذات الطابع التجاري والاستثماري. وفي ما يتصل بالتعويضات، أشارت المصادر إلى أن «أي جديد لم يطرأ عليها»، بعدما قدّرت الحكومة منازل المُهجَّرين بأثمان بخسة، وأجبرتهم على مغادرتها قبل أن يعثروا على بديل، وهو ما أدى إلى تشرّد الكثيرين منهم، بحسب ما أفادت به «المنظمة الأوروبية ـــ السعودية لحقوق الإنسان»، التي لفتت كذلك إلى أنه لم يُعوَّض إلا على عدد محدود من الخاسرين. ووصفت المصادر نفسها الهرج والمرج الدائرَين في الإعلام السعودي حالياً بأنهما «حفلة كذب»، موضحة أن «المباني التجارية والاستثمارية سيعود ريعها للدولة»، فيما ستظلّ احتياجات أبناء المنطقة على مستويات متعددة في أسفل قائمة الأولويات.



واشنطن: تلويح «ديمقراطي» بالتحرك ضد الرياض
طالب أكثر من 12 مشرّعاً أميركياً، من أعضاء مجلسَي الشيوخ والنواب، بتحميل السلطات السعودية المسؤولية عن مقتل الصحافي جمال خاشقجي، مُهدّدين بالتحرك ما لم تبادر إدارة الرئيس دونالد ترامب بالاستجابة لهم. وخلال فعالية نُظّمت في مجمع الكونغرس «احتفاءً بحرية الصحافة»، وصف أكبر عضو جمهوري في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، مايك ماكول، مقتل خاشقجي بأنه «انتكاسة كبرى» في العلاقات مع الرياض، معتبراً أنه «يتعين إحداث تغييرات». وأعلن رئيس اللجنة نفسها، الديمقراطي إليوت إنجيل، أنه يعتزم عقد جلسات في شأن العلاقات مع السعودية في الأسابيع المقبلة. وكان مجلس الشيوخ قد أقرّ، في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، تشريعين يحمّل أحدهما ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مسؤولية مقتل خاشقجي، ويدعو الآخر إلى إنهاء الدعم الأميركي لتحالف العدوان على اليمن. لكن مجلس النواب لم يقرّ التشريعين المذكورَين بسبب سيطرة الجمهوريين عليه حينذاك، وهو ما لم يعد عليه الحال اليوم، حيث يعتزم الديمقراطيون الذين فازوا بأغلبية مجلس النواب، في انتخابات التجديد النصفي الأخيرة، إثارة القضية مجدداً.