يعتقد «غولدمان ساكس» أن استدامة الدين العام في لبنان تتطلب تقليصه إلى 50% من الناتج المحلي الإجمالي، وهذا بدوره يفرض على الدولة أن «تصادر» 65% من قيمة سندات الدين وتترك 35% للمستثمرين، «ما سيؤدي إلى إفلاس المصارف التي توظّف ضعفَي رؤوس أموالها في الدين السيادي». «غولدمان ساكس» يمثّل كبار حملة السندات، وهو «يصارع» باسمهم من أجل تقليص حصّتهم من فاتورة التصحيح، وتحميلها للذين تحمّلوا كلفة السياسات التي خلقت الأزمة: ذوو الدخل المتوسط والمتدني.بصدور التقرير التحليلي الأخير للمصرف الأميركي «غولدمان ساكس»، يكون الحديث عن الوضع المالي في لبنان تجاوز النقاشات حول «احتمالات الانفجار المالي» في مواجهة سرديّة «القدرات الأسطورية لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة»، وقفز نحو عملية التصحيح المالي وتوزيع فاتورته. قبل نحو شهر، كان «غولدمان ساكس» يناقش احتمالات الانهيار المالي في تقرير صدر بعنوان «إلى متى يمكن لبنان أن يموّل عجزه المالي»، إلا أنه قرّر أن يفتتح 2019 بالحديث عن آليات التصحيح المالي والتهويل من كلفة فاتورة التصحيح على المستثمرين، وعلى رأسهم المصارف اللبنانية التي «توظّف في سندات الدين السيادي ضعفي رؤوس أموالها». تصريح واحد من وزير المال علي حسن خليل كان كفيلاً بتغيير نظرة «غولدمان ساكس». ففي 30 كانون الأول الماضي قال خليل الآتي: «الأزمة الاقتصادية اليوم في أعلى تجلياتها وارتداداتها، وبدأت تتحول من اقتصادية إلى مالية... نأمل إلا تتحوّل إلى أزمة نقدية».
تصريح خليل، شكّل المبرّر الأساسي لقيام «غولدمان ساكس» بإصدار تقرير تحليلي للمبالغ التي يمكن المستثمرين استردادها من سندات الدين اللبنانية. رغم ذلك، فإن خطوة احتساب هذه المبالغ تشي بأن احتمال الانهيار بات طاغياً على ما عداه. والمبرّر الثاني الذي تطرّق إليه «غولدمان ساكس» متصل بالمستثمرين الخائفين من عدم الاستقرار المالي على المدى الطويل «ما جذب تركيزهم نحو السؤال الآتي: في حال قرّرت الحكومة اللبنانية أن تقوم بعملية إعادة هيكلة سندات الدين، فما هي قيمة استرداد هذه السندات؟». لذا، أجرى «غولدمان ساكس» تحليلاً مالياً لاحتساب قيمة الاسترداد في إطار هدف إعادة العجز المالي إلى وضع الاستدامة. حدّد المصرف ثلاثة عوامل أساسية تؤثّر على العجز المالي هي: أسعار الفوائد، والنمو الاقتصادي، والعجز/الفائض الأولي في الخزينة. وتفترض عملية الاحتساب هذه أن وضع الدين العام على سكّة الاستدامة يتطلب أن تكون نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي نحو 50% (حالياً، نسبة الدين إلى الناتج تتجاوز الـ150%). ولا يمكن تحقيق هذا الهدف عن طريق رفع النمو إلا إذا سجّل لبنان معدلات خيالية، كما لا يمكن تحقيقه عبر تسجيل فائض أوّلي في الخزينة، لأن ذلك يتطلب أن تكون نسبة هذا الفائض 8% من الناتج المحلي الإجمالي أو ما يعادل نحو 5 مليارات دولار، وهذا أمر صعب جداً. كما أنه لا يمكن بلوغ هذا الهدف عبر خفض اسعار الفوائد إلى المعدلات الملائمة... لذا، هناك خيار «قصّ الشعر». هي عبارة عن عملية مالية تقنية تتيح للحكومة استرداد السندات التي أصدرتها في السوق بعد حسم نسبة محدّدة من قيمتها. في حالة لبنان، بحسب «غولدمان ساكس»، فإن بلوغ نسبة من الدين إلى الناتج توازي 50%، يتطلب أن تقوم الحكومة بـ«قصّ شعر» لسندات الدين بالعملات الأجنبية (اليوروبوندز) بنسبة 65% من قيمتها. عملياً، فإن الحكومة تصادر 65% من قيمة السندات، وتدفع للمستثمرين وحملة السندات 35% من قيمتها.
«استدامة الدين العام» تتطلب أن تعفي الدولة نفسها من 65% من قيمة سندات الدين


عند هذا الحدّ، لا يعتقد «غولدمان ساكس» أن التصحيح المالي المطلوب لاستدامة الدين ممكن تنفيذه. ففي أحد السيناريوات يتبين أن سعر صرف الليرة مقابل الدولار سيرتفع من 1507 ليرات إلى 3000 ليرة، وهناك سيناريو آخر يتطلب خفض أسعار الفائدة ورفع معدلات النمو «وهو أمر ممكن لكنه بعيد عن متناول صانعي السياسات في لبنان، ويعتمد على تطورات الظروف الإقليمية والاقتصادية والسياسية أيضاً».
في الواقع، إن المصرف الأميركي خلص إلى هذه النتيجة، للقول إن العنصر الاساسي المحدّد لتنفيذ عمليات إعادة هيكلة الدين هو المصارف. فالمشكلة التي ستواجه صانعي السياسات، أن انكشاف المصارف على الدين السيادي كبير جداً، فهي تحمل سندات دين بقيمة 55 ألف مليار ليرة، أي ما يوازي ضعفي رؤوس أموالها البالغة 30 ألف مليار ليرة. «إذا قرّرت الحكومة أن تقوم بعملة قصّ الشعر بنسبة 65%، فإن هذا الأمر سيؤدي إلى إفلاس المصارف. أهمية النظام المصرفي اللبناني كوسيط يؤمن التمويل للعجز الخارجي ولعجز المالية العامة، يجعل من سيناريو كهذا أمراً مستبعداً».
ويشير التقرير إلى أن «بعض الزبائن تحدّثوا عن وجود مقترحات لعمليات «قصّ شعر» تطاول الودائع (على الطريقة القبرصية، أي أن تمنع الدولة خروج الأموال ثم تصادر نسبة من الودائع لإطفاء الدين العام)، فإن هذا الخيار ممكن نظرياً، لكنه مستبعد أيضاً، نظراً إلى الضرر الطويل المدى الذي سيلحق بسمعة لبنان المصرفية، وهي أمر حيوي جداً من أجل استمرارية ودائع المغتربين». وفي النهاية، يخلص التقرير إلى أن أي عملية إعادة هيكلة للدين ستأخذ في الاعتبار تخفيف الأعباء على المصارف.
إذاً، «قص الشعر» صار أمراً متداولاً. الحقيقة أنه لا دخان بلا نار. فالحديث عن إعادة هيكلة الدين العام أمر متداول بين المسؤولين والخبراء. هناك أكثر من جهة تعمل على هذه الهيكلة، من دون أن تسرّب أي معطيات عنها، لا في الشكل ولا في المضمون. بعض المصرفيين أعربوا عن رغبتهم في المشاركة في عملية التصحيح، وبعضهم الآخر رفض بهدف تحميل «سلسلة الرتب والرواتب» كلفة الانفجار المالي. تقرير «غولدمان ساكس» يأتي في إطار الصراع على توزيع كلفة التصحيح. يستخدم المصرف المذكور معطيات واقعية للتهويل. لعبة محسوبة ضمن المصالح المشتركة بين المصارف المحلية والمصارف الأجنبية. فالمصارف اللبنانية ومصرف لبنان يحملون سندات يوروبوندز بما لا يقل عن 27.5 مليار دولار، وهناك 5 مليارات دولار محمولة من قبل صناديق أجنبية (هذه الأرقام صادرة عن مصادر في مصرف لبنان). هؤلاء هم في غالبيتهم زبائن «غولدمان ساكس». أبرزهم صندوق «بلاك روك» الذي يحمل سندات يوروبوندز بقيمة تصل إلى مليار دولار، أي إنه وحده يمثّل 20% من قيمة السندات المحمولة من قبل أجانب. «بلاك روك» زار لبنان في منتصف تشرين الأول الماضي ضمن جولة نظّمها «غولدمان ساكس» لاستطلاع الوضع المالي في لبنان، ولإقناع زبائنه باستثمار المزيد من الأموال في السندات اللبنانية. لا أحد يعلم إذا تمكن هذا المصرف من إقناع زبائنه بهذا الاستثمار، لكن المعروف أنه يستند إلى تصريح وزير المال للتحذير من نتائج عملية التصحيح. «غولدمان ساكس» هو أحد أطراف اللعبة، وهو «يصارع» باسم من يمثّلهم من صناديق أجنبية ومن مصارف لبنانية يتعامل معها أيضاً، لتقليص حصتهم من فاتورة التصحيح. «غولدمان ساكس» لا يختلف عن المصارف اللبنانية التي حققت الكثير من الأرباح على حساب الخزينة العامة وذوي الدخل المتوسط والمتدني، وتسعى اليوم للفوز بإعفاء من دفع فاتورة التصحيح وتحميلها أيضاً للفئة نفسها التي تحمّلت كلفة تضخّم ثروات أصحاب المصارف وكبار المودعين.