بعد أربعة أشهر وأربعة أيام، نجح رئيس مجلس إدارة مصرف سوسيتيه جنرال أنطون صحناوي في إخراج قريبه خليل صحناوي، المتّهم بارتكاب أكبر عملية قرصنة إلكترونية في تاريخ لبنان، من السجن. تواطأ أهل السياسة وأهل القضاء، بالتضامن والتكافل، لإنجاز تسوية إخلاء سبيل صحناوي قبل الأعياد، على أن يحضر جلسات المحاكمة لاحقاً.«من يملك المال لا يدخل السجن في لبنان». هذه العبارة التي يرددها وزير «سياديّ» تنطبق على خليل صحناوي، ولو أنه ليس من أصحاب الثروات. لكن الموقوف الشهير كان «مسنوداً» إلى إمبراطورية «مليارية» يملكها قريبه أنطون صحناوي. خليل الذي مكث، على غير عادة، في ضيافة وزارة الدفاع منذ إحالة ملفه على استخبارات الجيش للتوسّع في التحقيق، جرى سوقه أمس ليمثل أمام هيئة المحكمة العسكرية لتحقيق هدف معروف مسبقاً: إتمام إجراءات إخلاء سبيله. وبالفعل، قررت المحكمة، برئاسة العميد حسين عبد الله، إطلاق سراحه، محدِّدة تاريخ ٢٣ كانون الثاني المقبل موعداً لاستكمال محاكمته. هكذا، وبقدرة قادر، خرج من السجن الرجل المتهم بخرق خصوصية مئات آلاف اللبنانيين وامتلاك قدرة التنصّت على المشتركين في أوجيرو وتحديد المواقع الإلكترونية التي دخلوها وكلمات السرّ التي دوّنوها، فضلاً عن اختراق سجلات الأحوال الشخصية والنشرة الجرمية والبريد السري للأمن العام وخوادم الإنترنت التابعة للدولة اللبنانية ولعدد كبير من الشركات الخاصة. لم يشأ أهل الحكم أن يتركوا المتّهم بتوظيف «قراصنة» لجمع معلومات سرية يجب أن تبقى مكتومة حفاظاً على سلامة الدولة، خلف القضبان، متناسين أنّه لم يُقدِّم سبباً مقنعاً لتبرير ما قام به، ولا أفصح عن مفاتيح عشرات الملفات المشفّرة التي عُثِر عليها في حوزته، زاعماً أنه نسيها.
حرص أنطون صحناوي على أن يقضي قريبه عيد الميلاد في منزله، فكان له ما أراد. تأهّب أهل السياسة والقضاء لتنفيذ مشيئته. لم يكن الأمر مفاجئاً. قبل أكثر من شهر، نشرت «الأخبار» تقريراً عن توجه لإخلاء سبيل صحناوي وضبضبة الملف. لكن أخطر ما في الأمر ما يُشاع عن أن رئيس المحكمة العسكرية تلقى اتصالات من مراجع أمنية وعسكرية، يزعمون أن «فخامة الرئيس بدّو اياه يضهر قبل العيد». وحفاظاَ على صورة العهد، يُصبح لزاماً على رئاسة الجمهورية توضيح ما جرى، ونفي الشائعات.
لا يخفى على أحد أنّ مسار الملف القضائي في ملف خليل صحناوي ملتبس منذ بدايته. فبمجرد أن أصدر قاضي التحقيق في بيروت أسعد بيرم في 20 آب قراراً بتوقيف المدعى عليه خليل صحناوي، حتى انهالت الضغوط من كل حدب وصوب لنقله إلى المستشفى بذريعة وضعه الصحي. ثم فجأة قرر القضاء إخلاء سبيله لأسباب نفسية! تُرِك العقل المدبّر وأُبقي الموظفان لديه (رامي ص. وإيهاب ش.) قيد التوقيف. وما إن خرجت الفضيحة إلى العلن، حتى أعيد توقيفه. صمد يومها القاضي بيرم في وجه الضغوط وأعاد توقيفه بجرم التخريب والسرقة والاعتداء على الأنظمة وقرصنة مواقع رسمية وأمنية. هنا تدخّل وزير العدل سليم جريصاتي طالباً إحالة القاضي والملف على هيئة التفتيش القضائي. تبع ذلك، تقدم وكلاء الموقوف صحناوي بطلب ردّ القاضي بيرم (أي تنحيته عن النظر في القضية) أمام محكمة الاستئناف في بيروت. وفجأة، يعود وكلاء الموقوف عن طلبهم. حتى إنّ القاضي بيرم تأخّر ولم يُصدر قراره الظني باتهام صحناوي بارتكاب جناية، إلا بعد صدور القرار الظنّي عن قاضي التحقيق العسكري الأول رياض أبو غيدا يوم 10 تشرين الأول 2018 الذي اعتبر فعل صحناوي جناية واتهمه مع شريكيه بارتكاب الجريمة المنصوص عليها في المادة 282 من قانون العقوبات، التي تنص على أنّ «من سرق أشياء أو وثائق أو معلومات (يجب أن تبقى سرية) أو استحصل عليها، عوقب بالأشغال الشاقة المؤقتة»، أي السجن لحد خمس سنوات. وألحقها في الفقرة الثانية بالإشارة إلى أنّه إذا اقتُرفت هذه الجناية لمنفعة دولة أجنبية كانت العقوبة الأشغال الشاقة المؤبدة.
جرى سوق خليل أمس ليمثل أمام المحكمة لتحقيق هدف معروف مسبقاً: إخلاء سبيله


قرار أبو غيدا كان حدثاً مفصلياً قطع الشكّ باليقين. لم يعد بالإمكان الحديث عن جنحة. المادة القانونية التي تُجرّم فعل الموقوفين خرجت إلى العلن. عندها استناب بيرم استخبارات الجيش للتوسع بالتحقيق وسحب الملف من فرع المعلومات. غير أنّ المفاجآت لم تنته. تأخر ردّ استخبارات الجيش في الإجابة على استنابة قاضي التحقيق في بيروت. بدا كأنّ أمراً مريباً يحصل. وعندما بدأت تحقيقاتها بعد أسابيع من إحالة الملف إليها، توقفت فجأة عن مخابرة المدعي العام التمييزي القاضي سمير حمود لوضعه في صورة تطورات الملف، وصارت تخابر بدلاً منه مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي بيتر جرمانوس. أُقفِل الملف في التفتيش القضائي. وسحب وكلاء الدفاع عن صحناوي طلب تنحية بيرم عن الملف. وفي المسار نفسه، قرر بيرم، بعد أشهر من التحقيق في الملف، أنه غير مختص للنظر فيه، طالباً إحالته على المحكمة العسكرية! الهيئة الاتهامية في بيروت فسخت قرار بيرم بعدما اعتبرت أن قرار قاضي التحقيق في غير موقعه القانوني السليم، وقررت أن الملف من اختصاص القضاء العدلي، مقررة إعادته إلى قاضي التحقيق الأول في بيروت لمتابعة النظر في الدعوى من النقطة التي وصلت إليها. لكنها قسمت الملف إلى قسمين: الجنايات التي يُتَّهم خليل صحناوي ورفيقاه بارتكابها أُحيلت على القضاء العسكري، فيما تُرِكت الجُنح أمام القضاء العدلي. ومن المتوقع أن يصدر القرار الظني بالجنح في غضون أيام. لكن هذا القرار لن يُغيّر من واقع الأمر شيئاً. سيبقى خليل صحناوي حراً، لأنه قضى أربعة أشهر في السجن، ما يحول دون استمرار توقيفه في قضية الجنح المدعى عليه بها أمام القضاء العدلي.
خلاصة الأشهر الأربعة أن القبعة تُرفع لأنطون صحناوي الذي لم يترك قريبه في السجن، ليُحاكم أمام القضاء موقوفاً كالضعفاء. زعماء وسياسيون ونواب ووزراء وقضاة وإعلاميون تجنّدوا خدمةً للمصرفي الشاب، ونجحوا في «فك أسر» خليل. الحصانة التي يتمتّع بها أصحاب المليارات في لبنان (وحول العالم)، باتت تشمل أيضاً أقرباءهم والعاملين في خدمتهم. هنيئاً لهم جميعاً. وهنيئاً لنا بهم.