لندن | بينما تتوافق أغلب القوى السياسيّة الفاعلة في بريطانيا - بما فيها كتلة وازنة من نواب حزب «المحافظين» الحاكم - على تحدّي مشروع الاتفاق مع الاتحاد الأوروبي في شأن «بريكست» الذي توصلت إليه تيريزا ماي، بدا أن رئيسة الوزراء ستقاتل حتى اللحظة الأخيرة دفاعاً عن مشروعها (وبالضرورة عن منصبها). وهي لذلك أطلقت فريقاً موسعاً من المستشارين والخبراء لمحاولة التأثير في أهواء النواب قبل التصويت (الحادي عشر من كانون الأول/ ديسمبر)... أقله للتقليل من هامش الخسارة. تبدو رئيس الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، عازمة على القتال حتى الرمق الأخير دفاعاً عن مشروع الاتفاق الذي توصلت إليه أخيراً مع الاتحاد الأوروبي في شأن تنظيم خروج بريطانيا من عضوية الاتحاد («بريكست»).
في المقابل، يتلاقى عدد كبير من القوى السياسيّة الفاعلة على رفض الاتفاق، لا سيّما حزب «العمال» المعارض والحزب القومي الإسكتلندي (يتولى إدارة الإقليم الشمالي المتطلّع للاستقلال عن لندن)، وكتلة وازنة من نواب حزب «المحافظين» الحاكم يُرجح أنها تجاوزت ثلث تمثيل الحزب في مجلس العموم، ترفض مشروع الاتفاق علناً على أرضيّة أنّه لا يحقق «خروجاً» حقيقياً أو يستعيد سيادة يراها هؤلاء انتقلت ذات يوم إلى بروكسيل (في العام 1973).
وتتحدث أوساط مقرّبة من «10 داونينغ ستريت» (مقر رئاسة الوزراء في لندن) عن انطلاق جيش من المستشارين والخبراء الحكوميين في مهمات عاجلة للوصول إلى تفاهمات مع أكبر عدد ممكن من النواب واستمالتهم إلى التصويت لمصلحة تمرير اتفاق ماي. ولا يستبعد أن هؤلاء يمتلكون صلاحيات لتقديم صفقات تساعد موقف الرئيسة التي قد تدفعها نتيجة حاسمة بالتصويت ضد مشروعها إلى الاستقالة من منصبها، وربما الدعوة إلى انتخابات جديدة لا تبدو حظوظ الحزب الحاكم كبيرة بالفوز بها.
ومع أن أجواء مقرّ الرئاسة توحي بإصرار على المواجهة، فإن لا أوهام لدى أحد من الفريق العامل في شأن نتيجة التصويت، إذ يبدو التفاؤل هو الاتجاه الغالب لإمكانية تحقيق خسارة بهامش ضيّق تبرّر استمرار ماي في منصبها، ومن ثم المناورة قانونياً وسياسيّاً لإنقاذ معظم بنود اتفاقها العتيد.
وقد شنّت الرئيسة، وفق نصيحة مستشاريها المقربين، هجوماً لكسب العقول والقلوب تضمّن خطاباً مكتوباً وجهته إلى الشعب، ودعوة علنيّة إلى النواب للرجوع لقواعدهم الانتخابيّة واستمزاج مواقفها بدلاً من التصويت سياسياً، وضغوطاً على قيادة حزب المحافظين بغرض توجيه تعليمات صارمة لنوابهم بدعم اتفاقها يوم التصويت خوفاً من فقدان السلطة لمصلحة حزب «العمّال».
يعمل جيش من المستشارين والخبراء الحكوميين للضغط لمصلحة تمرير الاتفاق


لكن هذه الجهود المنسّقة لا تبدو إلى الآن كافية لاحتواء الانتقادات الشديدة الموجهة لمشروع الاتفاق، سواء من المؤيدين أو المعارضين على حد سواء. فجيريمي كوربن كان واضحاً برفضه المشروع في جلسة البرلمان الأسبوع الماضي، وتبدو كتلة حزب العمّال (المخترقة من اليمين عبر أنصار توني بلير) متماسكة في أغلبها حول رفض الاتفاق، ويلتقي معها القوميّون الاسكتلنديون، وحزب الليبراليين الأحرار، وحزب الخضر وكذلك حزب الديموقراطيين المتحدين الإيرلندي الشمالي (الحليف الصغير للمحافظين في السلطة). وبحسبةٍ بسيطة فإن مجموع هؤلاء تكفي لإسقاط مشروع القرار من دون الحاجة إلى أصوات المتمردين المتزايدة في صفوف «المحافظين».
وكأن ماي بحاجة إلى مزيد من المصاعب، ليسرع «لنجدتها» الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي عبّر عن خيبة أمله من مشروع الاتفاق، إذ اعتبر أنه «ربما جيّد لمصلحة الأوروبيين لكنه ليس كذلك لبريطانيا»، ومتوقعاً أن يصبح في حكم المستحيل عمليّاً توقيع اتفاقيات تجارة ثنائيّة بين بلاده والمملكة المتحدة نتيجة له. وعلى رغم نفي مكتب رئاسة الوزراء لمضمون تصريح ترامب والتأكيد على أن «الإعلان السياسي المرافق لمشروع الاتفاق يحدد بوضوح امتلاك بريطانيا حق التوصل إلى اتفاقات تجاريّة ثنائيّة مع أي من الأطراف»، فإن تصريحات الرئيس الأميركي عزّزت من موقف «البريكستيين» المتعنتين الذين يرون في مشروع ماي أقلّ من نصف «خروج» وخضوعاً ضمنياً لهيمنة بروكسيل.
وزير الخارجيّة السابق، بوريس جونسون، سارع إلى البناء على هذا التصريح، والتحذير من «اتفاق سيء تقودنا إليه السيّدة ماي قد يكون عدم التوصل إلى اتفاق أفضل منه»، بينما دعا وزير «بريكست» السابق، ديفيس ديفيس، إلى عدم تحويل فاتورة الطلاق التي بلغت 39 مليار جنيه استرليني قبل التوافق على ترتيبات محددة بخصوص التجارة والجمارك البينية كما اتفاقات التجارة الدوليّة. وبالفعل فإن المملكة المتحدة ستكون في خطر مواجهة أزمة قانونيّة وإجرائيّة متسعة الأبعاد نهاية آذار/ مارس المقبل إن فشلت في التوصل إلى اتفاق لتنظيم خروجها من عضوية الاتحاد الأوروبي. وقد يتسبب ذلك بأزمات لوجستية على نقاط الحدود والمطارات، كما انقطاعات في إمدادات الغذاء والدواء وتوقف للصادرات البريطانيّة نحو القارة الأوروبيّة – الشريك التجاري الأكبر للمملكة بما يزيد على 50% من مجمل تجارتها مع العالم.
مهما كانت نتيجة التصويت يوم الحادي عشر من الشهر الجاري، فإنه لا خلاف بين المراقبين على أن خريف لندن الساخن سيتمخض بالضرورة عن تحولات جذريّة في شأن مستقبل المملكة المتحدة والقارة الأوروبيّة عموماً، لا سيما على المديين القصير والمتوسط. يأتي ذلك مع توقعات بانكماش الناتج القومي البريطاني بنسب غير مسبوقة تتجاوز الخمسة في المئة في حال تنفيذ «بريكست» وفق مشروع ماي كما هو، أو حتى بعد إجراء تعديلات شكليّة عليه.
ومع ذلك فإن بعض المتفائلين يقولون إن فشل البرلمان في التصديق على الاتفاق قد يكون فرصة لإعادة طرح فكرة استفتاء شعبي جديد يُعتقد أنه سيكون لمصلحة الاحتفاظ بعضوية الاتحاد الأوروبي هذه المرّة، وقد يعيد الأمور إلى موضعها قبل استفتاء 23 حزيران/ يونيو 2016 الذي تمخض عن غالبية بسيطة لمؤيدي مغادرة بريطانيا عضوية الاتحاد الأوروبي، ما تسبب إلى حد كبير في الأزمة السياسيّة الخانقة التي تعيشها البلاد.
بينما يميل آخرون إلى الاعتقاد بأن الصدوع الداخليّة في بيت حزب المحافظين حول «بريكست» تحديداً ستؤدي إلى فقدانه الغالبيّة في البرلمان مما قد يفتح الأفق القريب على احتمالين أحلاهما مرّ: استدعاء زعيم المعارضة جيريمي كوربن إلى تشكيل حكومة تحالف وطني تدير مسألة «بريكست» برمتها سواء بإلغائه أو إعادة التفاوض من حوله على أسس جديدة مؤيداً بشرعيّة لم تتمتع بحصة كافية منها الرئيسة الحاليّة، أو خسارة شبه أكيدة لانتخابات عامة في مثل هذا التوقيت السيء بالنسبة للحزب الذي يشهد «حرباً أهليّة» سافرة بين مراكز قوى متعددة داخله.
لندن إذن على مفترق طرق، وكل الخيارات قائمة ما لم تسفر جهود ماي وجيش مستشاريها عن تغيير جذري لمصلحة مشروع اتفاقها مع الأوروبيين خلال ثمانية أيّام تالية، وهو أمر يشبه انتظار معجزة تنقذ الرئيسة من خسارة محتمة لمنصبها.