في مسلسل التعديات التي تعرَّض لها منذ ستينيات القرن الماضي، يواجه نهر الليطاني اليوم أسوأ كارثة بيئية، حوّلته عملياً إلى مجرور لتصريف مياه الصرف الصحي، وإلى مكبٍ للنفايات الصلبة الناتجة عن سكان 48 بلدة ومدينة واقعة في حوضه الأعلى، يضاف إليهم سكان ثلاثين مخيماً للنازحين السوريين، ونحو 1000 مؤسسة صناعية وزراعية وتحويلية، بينها أكثر من 280 مصنعاً ومشغلاً تلقي بكل مخلّفاتها في مجرى النهر وفي مجاري روافده الثمانية، فيما تمدّه المساحة المزروعة التي تُروى من مياهه (36 ألف هكتار) في حوضه الأعلى، بالملوّثات الكيماوية الناتجة عن الاستعمال المفرط للأسمدة والمبيدات، ليتحول هذا النهر العظيم إلى مجرور، وبحيرته الوحيدة إلى جورة صحية، علماً بأن استكمال ما تبقّى من مشاريع مائية في مخطّط استثمار مياه النهر، كان سيجعله قادراً على تغطية نصف حاجات سكان لبنان، بما فيه العاصمة، من مياه الشرب، وعلى توفير المياه لنصف الرقعة الزراعية المروية. وهذا وجه آخر لكارثة التلوث.إلا أن التعديات على الليطاني لا تقتصر على التلوث. فقد كان هذا النهر، خلال السنين الستين الماضية، عرضة لتعديات كبرى، أبرزها:
تحويل (detournement)مياهه وجرّها إلى حوض آخر يقع خارج الجنوب، وإستعمالها في أهداف بعيدة عن التوجه التنموي.
محاولة سرقة مياهه من العدو الإسرائيلي.
حفر آبار جوفية عشوائية في حرم مصادر مياهه، ما تسبّب في نضوبها، كاختفاء نبع العليق، المصدر الأساس للمياه التي تجري في حوضه الأعلى.

تحويل مياه النهر
وقع التعدي الأول على مياه النهر في أواخر خمسينيات القرن الماضي، عندما نفذت المصلحة الوطنية لنهر الليطاني برنامج مشاريع مائية ــــ كهربائية كبرى، بدأ بإقامة سد القرعون على المنسوب 800م. إذ بدل أن يُستعمل مخزون البحيرة (سعتها 220 مليون متر مكعب)، في الدرجة الأولى، في ري الأراضي الواقعة في حوضه (البقاع الغربي والجنوب)، سُحبت المياه في نفق أرضي يزيد طوله على 26 كلم (نفق مركبا ــــ أنان ــــ الأولي)، وأقيمت عليه ثلاثة معامل لإنتاج الطاقة الكهربائية. واستخدمت المياه المعنَّفة في هذه المعامل لإنتاج كمية محدودة من الطاقة (نحو 190 ميغاواط)، تتطلب سحب 350 إلى 400 مليون متر مكعب من البحيرة على المنسوب 800م، وتطلق في عرض البحر تحت جسر الأولي على المنسوب صفر.
يضاف إلى ذلك أن المياه التي جرى تحويلها عن مسارها الطبيعي، استخدمت في أغراض بعيدة عن التنمية الشاملة، إذ لو أنها استخدمت، مثلاً، لأغراض الري أولاً، لأحدثت تغييراً بنيوياً في أرياف البقاع والجنوب. فعندما تتوجه المياه لري الأراضي، في الزراعة تحديداً، تحدث تحولات وتغييرات جذرية تؤدي إلى «تأثيرات مضاعفة» (ما يعرف بـ Effects multiplicateurs)، أي إن الفلاح، في الأراضي المرويّة، يستدعي خدمات أخرى لإنجاز عملية الفلاحة. فيطلب من قطاعات أخرى تزويده بالآلات والبذار والأسمدة، كما يطلب لتصريف إنتاجه، خدمات تسويقية ووسائل تخزين وتصنيع، فيما استعمال المياه لإنتاج الطاقة الكهربائية لا يستدعي أي خدمات من قطاعات أخرى. وعليه، حان الوقت لطرح الأسئلة الآتية:
ماذا قدمت معامل إنتاج الطاقة الثلاثة من كهرباء تذكر في السنوات الثلاث الماضية التي لم يزد مخزون بحيرة القرعون فيها على 130 مليون م3 في السنة؟
ماذا نترك لمشاريع الري التي باتت منفذة والتي تحتاج إلى أكثر من 130 مليون متر مكعب في السنة؟
إذا توقفت المعامل عملياً بفعل حلول سنوات الشح، وفي حال توافر المياه لمشروعي ري الجنوب والبقاع الغربي اللذين يستهلكان كامل مخزون البحيرة في سنوات الشح، فماذا يبقى من مياه لجرها إلى بيروت؟ وما هو المبرر الاقتصادي لمتابعة تنفيذ مشروع جر مياه الليطاني الملوثة إلى العاصمة، ما دامت معامل الطاقة شبه متوقفة منذ ما يزيد على ثلاث سنوات؟

سطو إسرائيلي
خلال سنوات الاحتلال للشريط الحدودي، نفّذ العدو الاسرائيلي مشروع تحويل جزءٍ من مياه الليطاني باتجاه الجليل الأعلى، وصولاً الى محطة الطبقة (منطقة انطلاق مشروع طبريا ــــ النقب). ويتضمن مشروع التحويل:
بناء نفق أرضي (Tunnel souterrain) يربط بين نهر الليطاني (أسفل جسر الخردلي على المنسوب 240م) ونقطة انطلاق مشروع طبريا ــــ النقب (الطبقة) في منطقة جسر بنات يعقوب على المنسوب 160م في الجليل الأعلى. يبلغ طول النفق 17 كيلومتراً، ويسمح بنقل كمية من المياه تتراوح بين 120 و150 مليون م3 بالجاذبية.
إقامة حاجز صخري (Batardeau) في عرض النهر يتيح لجزء كبير من المياه الجارية أن تتحول نحو النفق الأرضي. وبعد وصول المياه إلى جسر بنات يعقوب يتم تسييرها في قناة تصل إلى نقطة انطلاق مشروع طبريا النقب على المنسوب +44 م.
لو استخدم تحويل مياه النهر للري بدل مشاريع الكهرباء لأحدث ذلك تغييراً بنيوياً في أرياف البقاع والجنوب


سرقة إسرائيل لمياه الليطاني تحقق لها مكسبين أساسيين: المساهمة في حل أزمة المياه الحادة التي تعيشها، والتخفيف من نسبة الملوحة التي تعاني منها بحيرة طبريا. وفي السياق نفسه، تحاول إسرائيل حالياً تحويل جزء من مياه الحاصباني الذي يصبّ في طبريا، وخلطها مع المياه المحوّلة من الليطاني في محطة الطبقة للغاية نفسها، علماً بأن عملية السطو على مياه الليطاني لم تصل إلى خواتيمها كما كان يشتهي العدو بسبب قوة الردع المقاومة في لبنان.

الآبار العشوائية
كما تعرض الليطاني، في غياب سلطة الرقابة، لعملية تعدٍ أخرى على مصادر مياهه عبر حفر عشرات الآبار في حرم منبعه الرئيسي، ما أدى مباشرة إلى نضوب نبع العليق منذ أكثر من عشرين عاماً، فضلاً عن حفر آلاف الآبار في حرم مصادر مياهه الأخرى (قرب ينابيع «الغزيل وشمسين وشتورة»، ما تسبّب في انخفاض معدلات تصريفه.
وأخيراً، أتت كارثة التلوث لتقضي على أي أمل في استثمار هذا النهر. ومع ضرورة التنويه بالجهود التي تبذلها الادارة الجديدة للمصلحة، إلا أن هذه الكارثة ليست حديثة العهد. فخلال الفترة 1998 ــــ 2000، وضع فريق من الوكالة السويدية للتنمية دراسة علمية، استندت إلى فحوصات مخبرية لعينات سُحبت من المجرى الأعلى للنهر ومن بحيرة القرعون ومن 19 بئراً ارتوازية منتشرة على إمتداد الحوض. وأظهرت الدراسة أن مياه النهر تحتوي على كافة أنواع التلوث الكيميائي والعضوي والبيولوجي، مصدرها الصرف الصحي والنفايات الصلبة ومخلفات الصناعات المعدنية والتحويلية والملوّثات الناجمة عن الاستعمال المفرط للأسمدة والمبيدات. كذلك وضع فريق من الوكالة الأميركية للتنمية دراسة فنية شاملة عن تلوّث النهر وسبل معالجته بعد فحوصات أُجريت على مدى أكثر من أربع سنوات. لذلك، ليس مطلوباً اليوم مزيد من الدراسات تودع في مستودع المحفوظات، بل، أولاً، أن تستخدم الإدارة المشرفة على قطاع المياه سلطاتها القانونية والأمنية لوقف التلوث على مستوى مصادره، بمعالجة الصرف الصحي والنفايات الصلبة، وإلزام كل مصنع ملوّث بمعالجة نفاياته. وثانياً، تطبيق أحكام القانون الصادر مؤخراً بفرض غرامة على الملوّثين على قاعدة «الملوِّث يدفع» (Le polluerur-payeur). وإذا ما أُزيلت النفايات من المصدر، يمكن النهر أن يعالج ما يقف في طريقهِ من نفايات عابرة. ولكي يقوم بهذه المهمة، يجب أن تتوافر في مجراه ــــ بشكل دائم ــــ كمية من المياه تسمح له بإطلاق عملية النحت والنحر التي تمكّنه من إزالة ما يقف عائقاً في سير تدفق مياهه.
* خبير بيئي، رئيس مصلحة سابق في مصلحة الليطاني.