بابتسامةٍ معهودةٍ يعلوها شاربان مفتولان، يلاقي «أبو محمد» زبائنه كل يوم. يثقون بعمله المتقن مذ كان شاباً، قبل أن تغيّر التجاعيد ملامح وجهه. يحافظ على تقاليد الحلاقة القديمة وعلى عدّته الأولى. يلبس مريوله الأبيض، تزيّنه ربطة عنقٍ رفيعةٍ مخططة. تبرز عروق كفّيه كلّما مرّر موسى الحلاقة على ذقن الزبون. يتفنّن بذلك. يكرّر العملية ثانيةً وسط صمتٍ لافت. الصور المعلّقة على الجدران وحدها تتكلّم. داخل إطارٍ خشبيٍّ عتيق، يقف بقميصٍ «أنصاريٍّ» أخضر، متسلّماً درعاً تكريميّاً من إدارة النادي. تلتصق بها صورة أخرى من على مدرجات الملعب البلدي، وثالثة لفريق الدرجة الأولى في الفترة الذهبية في الخمسينيّات. الكلام في غير الرياضة ممنوع داخل المحل.
يشجّع الأنصار منذ الخمسينيات(عدنان الحاج علي)

صار المحل أشبه باستديو تحليليّ لمباريات كرة القدم المحلية والعالمية. يواظب عيتاني على متابعتها كلّها، حتّى كرة القدم النسائية. يحفظ مواقيت النشرات الإخبارية الرياضية على مختلف قنوات التلفزيون عن ظهر قلب. لا يغفل عن أيٍ منها. يحرص على متابعتها بانتظام، وعلى تقييم أداء اللاعبين بعد المباريات. يختلف مع زبونه حول توقيت النشرة على قناة المنار، ويجيبه بلكنته البيروتيّة المحببة: «8 ونص المسا، سألني إلي».
السؤال عن عُمر «أبو محمد» يعيد عقارب الزّمن في رأسه طويلاً إلى الوراء. يسحب من جيبه «تذكرة القيد» القديمة. يحافظ عليها كإرثٍ وطنيٍّ لن يتكرر. صورةُ شابٍ بالأبيض والأسود تتربع على الصفحة الأولى، فيما محت الأعوام الواحدة والثمانون معالم السطور التي كُتبت بخطّ اليد في الصفحة الثانية. يتذكّر الشهر والسنة التي ولد فيهما بشكلٍ جيّد: «آذار 1937»، يقول بصوتٍ جهوري، لكنّه يفشل في إصابة اليوم الصحيح. لا يشيخ عيتاني برغم تقدّمه في السنّ. ينبض شباباً على مدرجات ملاعب كرة القدم. يرتبط اسمه ارتباطاً وثيقاً بنادي الأنصار. فهو شهد على نشأته منذ أن كان النادي في الدرجة الثانية عام 1951، وحين كان عدنان الشرقي لا يزال لاعباً ومدرباً للفريق. ابن منطقة رأس بيروت الذي انتقل للعيش في الطريق الجديدة في عمر الثامنة، تأثر بظاهرة نشوء الأنصار على أرض الملعب البلديّ. كان يسترق النّظر إلى تدريباته من خلف سور الملعب، قبل أن يدخله مشجّعاً رسميّاً. صار عيتاني ملتصقاً بالنادي، وبالجمهور الأخضر، إلى أن لقّب بالـ«عميد». وبعكس المتوقّع، فإنّ عيتاني اختار تشجيع فريق الأنصار، برغم أنّ أخواله الثلاثة كانوا يلعبون ضمن صفوف فريق النجمة.
شهد على نشأة الأنصار منذ 1951 حين كان النادي في الدرجة الثانية

يوسف يموت الملقب بالـ«سدّ العالي» واحد منهم، وأخواه حسن وصلاح. لم يتأثر بهم، بل كان يتابعهم على ملعب النجمة من بعيدٍ فقط. اختار ميوله الرياضيّة بعيداً عن روابط العائلة. الفوتبول بالنسبة له أسلوب حياة. شغف عيتاني بالأنصار لا يقتصر على تشجيع الفريق الأول فحسب، بل ينسحب على متابعته لكل فئات النادي: الأشبال والناشئون والشباب. يلحق بهم من مكانٍ إلى آخر، ولا يفوّت أي مباراة. يضحّي بعمله في الحلاقة من أجل حبّه للنادي. يغلق محلّه في منتصف النّهار ويتوجّه إلى الملعب. لا وقت للعمل. الوقت كلّه لـ«الطابة» فقط. صارت العلاقة بين عيتاني ونادي الأنصار أشبه بعلاقة الأب بابنه. لا ينفصل الأول عن الثّاني مهما كانت الظروف والأحوال. «يوم الأحد أؤمّن كل متطلبات الحجّة وبقلها بخاطرك، بتعرف لوين رايح»، يقول عيتاني، ويضيف: «ذهبتُ نهار الجمعة الماضي إلى جونية لمشاهدة مباراة الراسينغ والأنصار، وكذلك إلى البقاع نهار السبت». حبّ الأنصار يمتد على مساحة الوطن. عاد أبو محمد من المباراتين فائزاً، محمّلاً بالحلوى كما في كلّ مرّة، وهو «شرط» دأب على تنفيذه منذ زواجه. «أحضرتُ قريشة من البقاع، وعندما تكون المباراة في بيروت، أشتري الحلو العربي من محلات صفصوف الشهيرة في الطريق الجديدة». بات ينتظره العاملون في المحلّ بعد كلّ فوز. وقته ثابت، وطلبه معروف. أمّا «التزريك» من قبل أحد العمال «النجماويين» فيكون سيّد الموقف عند أي خسارة.
لا يحزن «ملَك الأنصار» لخسارة فريقه. يتقبل الربح والخسارة والتعادل برحابة صدر. يحاول أولاده استفزازه، لكنّ «الحجة» تقابلهم بالجواب ذاته دائماً: «الحاج ما بيزعل». شغف الفوتبول لا يقتصر على ربّ العائلة، فلعيتاني 3 صبيانٍ و3 بنات، منقسمين في الرياضية بين الفريقين الأكثر تنافساً في لبنان: «الصبيان مع النجمة والبنات يشجّعن الأنصار». اعتاد ولدا عيتاني عبد ومروى مرافقة والدهما إلى المباريات، خصوصاً إلى «الديربي» المنتظر في كل عام، بعدما تسلم من النادي «بوسطة» لنقل الجماهير «الأنصاريّة» من العاصمة بيروت إلى مختلف المناطق. الجماهير التي يتحدّث عنها عيتاني، قلّت حماستها في السنوات الأخيرة، فصار الجمهور «النبيذي» هو الجمهور الأكبر في لبنان. يعترف عيتاني بذلك، محاولاً إخفاء حزنه، لكن سرعان ما تفضحه الدّموع اللّامعة في عينيه المتعبتين. يبدي عيتاني أسفه لما وصلت إليه حال المدرجات، بعدما غرقت صفوف الجماهير بالسّباب والكلام غير اللّائق تجاه الفريق المنافس، ونخرت السّياسة عمودها الفقري، قاسمةً الملعب إلى مدرجين طائفيين. يبقى زمن التشجيع الجميل أسير وجدان المشجّع العتيق.
رغم كل شيء ذاكرة عيتاني لا تزال صاحية. تخلّد محطّات أساسية من عمر النادي مرتّبةً إياها بدقةٍ زمنيّة. هدف التأهل إلى الدرجة الأولى الذي أحرزه الوزير خالد قباني حينها في مباراتهم ضد فريق الهومنتمن أحد هذه المحطّات. كان ذلك بعد فوز الأنصار في أوّل مباراة له ضمن التصفيات المؤهلة للدرجة الأولى، وانسحاب فريقي الحكمة والرياضة والأدب. تتشابك الأحداث والتواريخ في ذهنه. يحاول استرجاعها كلّها من دون أن يغفل عن أيٍ منها. يحفظ أسماء المدربين وإداريي النادي في تلك الفترة، كما يحفظ خطواتهم وأبرز أعمالهم. يشير عيتاني إلى أنّ رخصة نادي الأنصار لم تكن في بيروت بل في جبل لبنان، قبل أن ينقلها فؤاد رستم إلى بيروت. شكّلت هذه الخطوة حينها محوراً أساسيّاً لتعلّق عيتاني بالنادي. يكمل حديثه بالقول إنّ نادي الأنصار تكوّن بمساعداتٍ عينيّةٍ من رستم ورئيس النادي في الدرجة الثانية سعيد روند. «كانت الليرة والنص ليرة تحكي، وهيك نشأ النادي». يبدو التأثر في صوته واضحاً خلال سرده لتاريخ نادٍ بيروتيٍّ عريق. ترتسم على وجهه المتعب ملامح الفخر بالانتماء إلى الأنصار. عندما انتقل النادي إلى الدرجة الأولى، سلّم روند «الأمانة» إلى سليم دياب، موصياً إياه: «أوعى تتصرف فيها لمين ما كان». الأمانة هذه ليست أمانة إدارة النادي فقط. «هي أمانة بيروت»، يعلّق عيتاني.
فوق المرآة الكبيرة في محلّه، تتربع صورة لفريقين بقيمصٍ أنصاريٍّ موحّد. نسأل عن شكل الصورة وتاريخها، فتحضر الإجابة فوراً على لسانه، وكأنّها جهّزت مسبقاً. يسرد عيتاني بالتفاصيل. «بعد صعود النادي إلى الدرجة الأولى، بدأ المدرب عدنان الشرقي بمساعدة أبو طالب البرجاوي، بتشكيل فريقٍ رديفٍ لنادي الأنصار، عبر تهئية وتدريب اللاعبين من فئة الأشبال والناشئين، إلى جانب الفريق الأول». يشير بإصبعه إلى زاوية الصورة: «هذا هو ديفيد، أفضل اللاعبين الذين لعبوا في صفوف الأنصار». لاعبون آخرون وجد فيهم عيتاني نخبة كرة القدم اللبنانية. أمثال جمال طه، وبيتر بروسبر، وعمر ادلبي، وأبو سعيد (محمد) مسلماني. يختصر موقفه تجاههم بالقول: «هودي ما بيجي متلن». كان جيلاً ذهبياً.
أكثر من نصف عقدٍ مرّ على الفترة الذهبية للنادي، ولا يزال عيتاني متمسّكاً بولائه التامّ له. رافقه في نجاحاته العالمية، فكان أوّل من حصل على نسخةٍ من كتاب غينيس للأرقام القياسية عام 1999، التي تُوثّق إنجازات النادي بتحقيقه أكبر عدد بطولات رياضية متتالية بين عامي 1988 و1999. وكذلك لم يتخلَّ عن حبّه للفريق عند تراجع آداؤه بعد التغيير المتكرر في المدربين، مؤكّداً أنّه «خطأٌ كبير». لكن كيف يقيّم عيتاني أداء النادي اليوم؟ يطلق تنهيدة عميقة قبل الإجابة، وكأنّه يستعرض في رأسه شريط أحداثٍ متسلسلاً. «النادي منيح». يصمت قليلاً. يقلّب الصور الأرشيفية بين يديه، ويكررها ثانيةً: «منيح». يبدو راضياً عن عمل المدرب الحاليّ عبدالله أبو زمع «فلديه تكتيك جيّد»، على حدّ وصفه.

دخل النادي موسوعة غينيس فكان أبو محمد أول الحاصلين على نسخة في 1999


تحفظ مدرجات ملاعب كرة القدم اللبنانية دعسات عيتاني. يستقبله الجميع بفرحٍ كلّما وطئت قدماه أرضية الملعب. يقابله لاعبو النادي بالسلام الحار والتأهيل. يترك في قلوبهم أثراً جميلاً بعد كلّ لقاء. كيف لا وهو المعروف بالعبارة الأشهر على المدرجات «يا ملَك». هكذا يخاطب اللاّعب المتصدّر في المبارة، ملقياً عليه اندفاعة الفوز. للملك عبارةً أخرى أكثر تأثيراً: «خلّيك عليه». يرتجف المهاجم ويرتبك أمام كلماته، محاولاً عدم إضاعة الفرصة. عباراته هذه سُجّلت في تاريخ النادي حتى صار من الصّعب الفصل بينهما. داخل خزانةٍ خشبيةٍ قديمة، يخبّئ عيتاني صوراً وصفحات جرائد أرشيفيّة، تحكي كلّ واحدةٍ منها قصّةً من عمره، ومن عمر النادي. هنا «مانشيت» صحيفة بهُت لونها: «ملَك نادي الأنصار... والحاج رفيق». وهنا أيضاً صورة لعيتاني يرفع كأس الفوز مع فريق الناشئين بعد إحرازهم البطولة. صورةٌ ملوّنةٌ يطغى عليها لون النادي الأخضر، فيما بقيَ الشيب الأبيض في رأس الرّجل الأكثر وضوحاً في الصورة، ودليلاً على رحلة وفاءٍ صادقة، ربما، لن تتكرر في تاريخ كرة القدم اللبنانية.



مطرب أصيل


لم يلعب عيتاني كرة القدم بقدر حبّه ومتابعته لها. تعلّم رياضة رفع الأثقال الحديدية عندما كان في السابعة من عمره في نادي الصيّاد في بيروت. اهتمامات عيتاني لا تقتصر على الرياضة فقط، فهو متعدد المواهب. ظُهر كل يوم، يصدح صوته في أرجاء منطقة الطريق الجديدة، رافعاً الأذان من على مأذنة جامع الحمد. يواظب على هذه الخدمة منذ 50 عاماً. لكنّه أيضاً عُرف بحبّه للطرب الأصيل قبل تلك الفترة، فتقدّم إلى برنامج المواهب «الفنّ هوايتي» على تلفزيون لبنان عام 1962، وحاز على المرتبة الأولى في مجموعة الغناء الطربية للراحل عبد الوهاب.


67 عاماً من الوفاء


التشكيك بنزاهة البطولات التي أحرزها نادي الأنصار على مدى الأعوام الماضية مرفوضٌ بالمطلق بالنّسبة لعيتاني. لا يتوان أبداً عن اتهام نادي النجمة بإذاعة الإشاعات بأنّ رفيق علامة كان يساعد النادي في التلاعب بنقاط وترتيب الفرق. يتهكّم على الجميع بالقول أنّ «علامة هو من كان يسجّل الأهداف بقدمه!». يبدو الأمر مضحكاً بالنّسبة له، فهو يثق بمهارات اللاعبين وبقدراتهم في تحقيق «الانتصارات». ولو لم يكن كذلك لما بقي وفيّاً للنادي منذ 67 إلى اليوم. يسأل عيتاني المشكّكين: «هل نسيتم أنّ المنتخب اللّبناني كان يختار 9 لاعبين من أصل 11 لاعباً لتشكيلته من نادي الأنصار؟».