يدخلون على كرسيّهم المتحرك إلى أرض الملعب بشوق. كأنّها المرة الأولى. بينهم وبين كرة القدم علاقة غريبة لا يمكن وصفها. هكذا يقولون. يشعرون بحرارة التحيّة كلّما علا التصفيق في المدرجات. اختلافهم عن المشجعين الآخرين يميّزهم. لكلٍّ منهم قصّته الخاصة. قصص ألزمتهم العيش مع الكرسي المتحرّك. كرسي يتحرّك مع حركتهم. هذه الحركة تشبه تماماً حركة الكرة على المعشِب الأخضر. صارت الكرة أسلوب حياة.قرب مقاعد البدلاء في ملعب مدينة كميل شمعون الرياضيّة، تجلس مجموعة مشجعين من ذوي الاحتياجات الخاصّة. التمييز بينهم سهلٌ جدّاً. ألوان قمصانهم تكشف هويتهم الرياضيّة. ولكن الولاء التامّ هنا للعبة الشعبية الأولى في لبنان، بل في العالم. شيء آخر يجمع بينهم غير حبّ اللعبة. الإنسانيّة. يمرّ وقت المباراة سريعاً لديهم. يتحدّثون سويّاً. يصرخون للفوز معاً، ويحزنون للخسارة. مجموعة من الشبّان جمعتهم كرةٌ واحدة منذ سنوات. نشأت بينهم علاقة أخوّة. صاروا مجموعة على كرسيٍّ متحركٍ واحد.

أكثر من مجرد لعبة
يجرّ أحمد ليّون (23 عاماً) كرسيه المتحرّك من منزله في عين التينة إلى المدينة الرياضيّة لمتابعة مباريات كرة القدم. يفعل ذلك بنفسه منذ سنوات. لا يتعب من مشقّة الطريق تحت أشعة الشّمس. ليّون الذي يعاني من شللٍ نصفيٍّ منذ الولادة، يجد في يديه السّليمتين سبيلاً للوصول. تخلّى عن مُرافِقه، بعدما كان يحضر إلى الملعب مع والده في عمر الثامنة ويجلسان سويّاً على المدرجات. لِليّون ورفاقه مدخلهم الخاصّ إلى الملعب. حراس البوابات حفظوا وقت وصولهم الذي لا يتغيّر، فساعاتهم باتت مضبوطة على الساعة الكبيرة المعلقة في الملعب. يدخل ذوو الاحتياجات الخاصّة من المدخل الخاص للاعبين. أزيلت لأجلهم العقبات. بشكلٍ لافت، يواظب اللاعبون على إلقاء التحيّة دائماً على كلّ فردٍ منهم. يقترب منهم اللاعبون، يتحدّثون ويضحكون «كيفك حبيبي؟». يسألون عن أحوالهم. يعدّد الشّبان أسماء اللّاعبين من دون تلعثم. الأساسيّون منهم والبدلاء. يحفظونها عن ظهر قلب، ويحفظون معها تاريخ اللّعبة وأصول النادي. ما يميّز كرة القدم عن مختلف الألعاب الأخرى هو علاقة «النجوم» بجمهورهم. كأنّ هؤلاء النجوم باتوا يستمدّون القوّة من تلك الحالات الخاصّة قبل النزول إلى «الميدان».
شغف الفوتبول لدى ليّون دفعه لِلحاق بنادي النجمة الذي يعشقه إلى زغرتا. كان ذلك في شباط الماضي تحت المطر. حبّ الكرة لا تحدّه المعوّقات الجسديّة ولا الطبيعيّة، إنّه الشغف. يستذكر ليّون المباراة «القاسية» التي خسر فيها فريقه أمام السلام زغرتا. لا شيء يحدّ من حماسة التشجيع. يشدّد ليّون على «التمسك بالفريق في حالات الربح والخسارة، فجمهور النجمة مختلف عن جمهور أي فريقٍ آخر في لبنان والوطن العربي».
يجرّ أحمد ليّون كرسيه المتحرّك من منزله في عين التينة إلى المدينة الرياضيّة


لا تقف الرياضة عند التشجيع فحسب، والإعاقة الجسدية لا تعني إعاقة في القدرات. استطاع ليّون بعزيمته التي لا تنقطع تحويل الإعاقة إلى طاقة، مستفيداً من العديد من المهارات لديه. «اشتركتُ مرتين في مارتون بيروت، محققاً المرتبة الثالثة في سباق 5 كيلومترات لذوي الاحتياجات الخاصّة. لم أتمرن حينها جيداً وتأخرت في السّباق. أمّا في السنة التالية فحققت المرتبة الثانية في سباق 7 كيلومترات». يبدو ليّون مثابراً على تحقيق إنجازاتٍ رياضيّةٍ أكبر. قد يطمح لرسم صورةٍ له بين صور أبطال العالم، ساعياً «للاشتراك هذا العام في سباق 21 كيلومتراً».

إصرار على حضور المباريات
تفتح ملاعب كرة القدم في لبنان الأبواب أمام ذوي الاحتياجات الخاصّة بالرغم من الإمكانات المتواضعة. يدرك المشجعون أنّ الملاعب لا تتلاءم مع حالاتهم على الإطلاق، لكنّهم يصرّون على الحضور دائماً إلى المباريات، من دون انقطاع. يثني جميع المشجعين على تعامل الإدارات والأندية والاتحاد اللبناني لكرة القدم الجيّد معهم. الاتحاد الذي يعفي الحالات الخاصّة ومرافقيهم من رسم الدخول إلى الملعب، يسمح لهم بالجلوس على أرضية الملعب وليس في المدرجات. بالرغم من كل التسهيلات المتوافرة، يجد قاسم السباعي (18 عاماً) في جلوسه في الملعب خطراً عليه. يعاني السباعي من شللٍ كاملٍ في أطرافه، «فلا أستطيع ردّ الكرة عني داخل الملعب مثلاً» يقول بأسف. يبدو محقّاً في ملاحظته، ولكن حتى الآن الملاعب غير جاهزة، وبالتالي العمل على تأمين أماكن آمنة لذوي الاحتياجات الخاصة في الملاعب يجب أن يكون أولوليّة. بالنّسبة إلى المشجع عبدالله ياسين (16 عاماً) فإنّ «ما يقوم به الاتحاد اللبناني عظيم جدّاً»، مؤكّداً أنّهم «سهّلوا علينا مشقّة الصّعود إلى المدرجات وخطر الإصابة من الشغب الذي قد يندلع فجأة بين الجمهور».

(عدنان الحاج علي)

حضور المشجعين من ذوي الاحتياجات الخاصّة إلى الملاعب ساهم في بناء العديد من العلاقات الجديدة مع النّاس وبالخصوص من جمهور النجمة. «هم أخوتي»، يقول ياسين، مشيراً إلى أنّ «البقاء في البيت لا يحقق لنا أي إضافة، بل يجب علينا الانخراط في المجتمع كالآخرين». ياسين الذي يتنقّل بمفرده من بيته في النبطية إلى العاصمة بيروت أو مناطق أخرى لمتابعة مباريات الدوري اللبناني، يشكّل لمن يعرفه «نموذجاً» حيّاً للإرادة وحبّ الحياة. لم يفارق ياسين كرسيه المتحرك منذ الطفولة بعدما ولد من دون أرجل بفعل مشاكل في الحمل، إلّا أنّه واجه الإعاقة بصلابة، وقرر المشي من دون كرسي بعد محاولاتٍ عديدة تكلّلت «بالانتصار». لدى ياسين، كرفيقه ليّون وآخرين، هدفٌ رياضي إلى جانب حبّ اللعبة و«هوَس» التشجيع. يتطلّع إلى المشاركة في المباريات الكبرى على صعيد لبنان بعد مشاركته مراراً في بطولات المدارس لكرة القدم، «وإذا لم أستطع أن أكون لاعباً رسمياً في الاتحاد، أسعى أن أصير مدرباً». حلم لا حدود له.


النجمة تهزم اللوكيميا
في كل مباراة للنجمة على أرضية ملعب المدينة الرياضية، يحضر الطفل حسين قاووق (5 سنوات). الجميع بات يعرف حسين. يمسك الطفل بيد لاعب النجمة حسن المحمد. يدخلان سويّاً إلى أرض الملعب في كل مرة. يعلو التصفيق في المدرجات. التّحية لقاووق. الطفل الذي تحدّى المرض الخبيث. يهزمه يوميّاً بإرادةٍ وقوّة. يذهب قاووق للعلاج من «اللوكيميا» كل أربعاء، ومن ثمّ يعود إلى مدرجات كرة القدم ليتابع اللعبة الأحب إلى قلبه. «أحب النجمة لأنهم أقوياء»، يعبّر ببراءة، ويضيف «أحبّ اللاعبين حسن معتوق وعلي السبع لأنهما الأفضل». علاقة قاووق بلاعبي النادي تكاد تكون الأجمل. يضمّه الأول إلى صدره، ويرفعه الثاني بين يديه، ويترك الثالث قبلة على خدّه تخفف عنه آلام الحُقن.


عهداوي بين النجماويين
خلال مباريات النجمة والعهد على ملعب المدينة الرياضيّة في بيروت، دائما ما تكون أعداد جماهير العهد أقل من جماهير النجمة، الأمر ذاته ينسحب على المشجعين من ذوي الاحتياجات الخاصّة. يطغى اللون الأحمر على الكراسي المتحركة. يظهر عبد الله ناصر (48 عاماً) مميّزاً بقيمصه الأصفر إلى جانب رفاقه «النجماويين». يحفظ في ذاكرته التي لم تعد تسعفه كثيراً، بعض المحطّات مع نادي العهد. قضى بينهم سنواتٍ طويلة منذ أن كانوا أشبالاً. رافقهم في مبارياتهم على مختلف الأراضي اللبنانية. «كنت أجمع الكرات في الملعب وأساعد الإدارة في تجهيزاتها اللوجستية، وهم في المقابل يساعدونني لأدبّر أموري المعيشيّة». لم يغب ناصر عن مباريات العهد طويلاً بعدما بترت قدمه بفعل مرض السّكري. استعاد نشاطه فور شفائه وعاد إلى الملاعب مشجّعاً وفيّاً للنادي الذي يحب، لكنّه يضطر أحياناً لمتابعة المباريات عبر التلفاز لعدم توفر النقليات الملائمة لوضعه الصحي. تشكّل كرة القدم لناصر محور حياةٍ بأكملها. كان يحلم أن يصل مع العهد إلى مراتب متقدمة، قبل أن يقعده المرض. أما اليوم فيحتفظ بما تبقى له من قدرةٍ لمتابعة النادي «الأصفر».