في الحسابات المالية التي يُفترض أن تعلن وزارة المالية قريباً انتهاءها، الكثير من الفضائح الموثّقة. معظمها صار متداولاً، لكن أكثرها لا يزال ينتظر ساعة الحقيقة. في حساب القروض، على سبيل المثال، يتبين أنه في عام 1997 حُوّلت اتفاقية قرض إلى المجلس النيابي بقيمة 30 مليون دولار، لشراء محرقة لاتحاد بلديات المتن الشمالي. التدقيق في المستندات يبين أن لبنان لم يتسلّم المحرقة، والمجلس النيابي لم يبرم الاتفاقية، لكن وزارة المالية سددت القرض!لا تنتهي المخالفات التي كُشفت أثناء إعداد الحسابات المالية. في كل حساب من الحسابات الـ13، التي صُححت أو أعيد إعدادها، مصيبة. بين ديوان المحاسبة والنيابة العامة المالية والتفتيش المركزي عشرات الملفات المحوّلة من وزارة المالية، متضمنة مخالفات موثّقة للقوانين، ولا سيما قانون المحاسبة العمومية. ليس دور «المالية» التدقيق في الخلفيات الجرمية لهذه المخالفات. واجبها توثيقها وتحويلها إلى الهيئات الرقابية للتدقيق فيها والتأكد مما إذا كانت مرتبطة بارتكابات متعمّدة أو بأخطاء حسابية. علماً أنه مهما كانت المخالفة، فهي لا تعفي مرتكبها من المسؤولية القانونية، التي يمكن أن تتدرج عقوبتها لتصل إلى السجن، في حال ثبوت الاختلاس أو السرقة أو هدر المال العام.
وزارة المالية دفعت ثمن محرقة نفايات لبلديات المتن.. لكن المحرقة بقيت في إيطاليا (مروان طحطح)

مع ذلك، فقد صار جلياً بالنسبة إلى المتابعين للملف أن هذا الكم من الفوضى والأخطاء في الحسابات لا يستوي إلا بقرار متعمّد ومدروس، كانت نتيجته عزل الإدارة بنحو منهجي ومنعها من القيام بعملها، مقابل ترك المهمة للمركز الإلكتروني الذي كان يديره نبيل يموت، الذراع اليمنى للرئيس فؤاد السنيورة على مدى سنوات طويلة، بمعاونة مجموعة من المتعاقدين على الساعة، لا يتحمّلون أي مسؤولية إدارية تجاه العمل الحساس الذي يقومون به. فكانت النتيجة حسابات ناقصة، قيود غير مسجّلة، أرشيف غير ممسوك بطريقة علمية، مستندات مرمية في مخازن غير مؤهلة، والأهم إصرار على رفض التدقيق ومواجهة أي محاولة لإعداد الحسابات، مع سعيٍ حثيث لإنهاء الأمر بتسوية سياسية.
إضافة إلى المخالفات التي اكتشفت في حسابات عديدة وأحيلت على النيابة العامة المالية، ومنها حسابات: المصرف (تصفير الحسابات وحسابات خاطئة)، الهبات (92 منها غير مسجلة أو قبضت دون مراسيم)، الصندوق (اختلاسات وعمليات قبض مزورة وإقراض أموال عمومية بفوائد لمصلحة القيّمين عليها، شيكات غير محصلة أو مفقودة...)، السلفات (غير مسددة أو مسجّلة على الحساب الخطأ...)، الحوالات (دفع حوالات بأكثر من قيمتها الحقيقية...)، كان لافتاً ما ورد في حساب القروض تحديداً. فالبيانات المالية للوزارة لم تكن تعكس حجم الدين الفعلي، بسبب عدد من الأخطاء، أبرزها عدم تسجيل السحوبات والأصول المموّلة من طريق القروض مقابل الاكتفاء بتسجيل عمليات التسديد فقط. وهو السبب الذي أدّى إلى جعل حسابات القروض مدينة (يفترض أن تكون دائنة لأن القروض مستمرة ولا يمكن أن تكون قد سددت جميعها).
لكن أين أصول الديون أو القروض ولماذا لم تسجّل؟ تبين أثناء التدقيق أن السبب يعود إلى أن أموال السحوبات كانت تحوّل مباشرة إلى مجلس الإنماء والإعمار من دون المرور بالخزينة اللبنانية. وأكثر من ذلك، تبين أنه في بعض الأحيان تذهب مباشرة إلى المقاول المتعاقد مع مجلس الإنماء والإعمار أو إلى الوحدة المنفذة للمشاريع في الإدارات العامة. وفي المقابل، لم تكن وزارة المالية تُلزم كلاً من مجلس الإنماء والإعمار أو الوحدة المنفذة في الإدارات بآلية عمل تسمح بتسجيل الأصول التي حصلت عليها الحكومة والمموّلة من القروض.
30 مليون دولار سُددت من دون موافقة المجلس النيابي وخلافاً لرأي هيئة التشريع


ذلك ليس كل شيء. حساب القروض مليء بالفضائح، لكن أكبرها يتمثل في قرض سددته وزارة المالية لشركة «ساتشي» الإيطالية (عن اتحاد بلديات المتن الشمالي) بقيمة 30 مليون يورو. كان القرض ثمناً لمحرقة تبين أن الدولة لم تحصل عليها. لا بل أكثر من ذلك، تبين أن المجلس النيابي لم يُبرم اتفاقية القرض تلك. وهذا أمر مثبت في الاستشارة الصادرة بتاريخ 20/7/1999 عن هيئة التشريع والاستشارات، والتي خلصت إلى أن «متابعة التسديد غير ممكنة في الوضع الحاضر»، إذ جاء في متنها: «لا يمكن ملاحقة الدولة اللبنانية أمام «نادي باريس» أو أمام أي مرجع، لأن الاتفاقية الموقعة مع ممثل الحكومة الإيطالية لم يبرمها مجلس النواب، ورغم ذلك جرى تنفيذ مضمونها». والأغرب أن التنفيذ جرى من جهة واحدة هي الجهة اللبنانية، التي دفعت ثمن المحرقة بالرغم من أن الجانب الإيطالي لم يسلّمها!
وتنص الاتفاقية، في مادتها الخامسة، على أنها لا تصبح نافذة إلا بعد إبرامها من السلطات اللبنانية المختصة، أي من مجلس النواب. وبالفعل، فقد أحيلت على المجلس بموجب المرسوم 11095 تاريخ 1/10/1997، لكن مجلس النواب لم يصدقها ولم يبرمها. ومع ذلك، قامت وزارة المالية بتنفيذ مضمونها من دون انتظار إبرامها من المجلس النيابي، وبالرغم من أنه لم يكن بإمكان الجهة المقرضة مطالبة الحكومة اللبنانية بالدفع. وعليه، فقد دفع لبنان، عبر وزارة المالية، مبالغ ضخمة غير متوجبة ثمناً لمحرقة غير موجودة، خلافاً للقانون وخلافاً لرأي هيئة التشريع، ومن دون انتظار موافقة مجلس النواب. أقفل الملف منذ ذلك الحين، وربما مع إماطة اللثام عن الحسابات المالية، بما تحتويه من فضائح، من الضروري إعادة النظر بالموضوع بكامله، وصولاً إلى تحديد المسؤوليات، وربما الوصول يوماً إلى المحاسبة.