غزة | حاولت المخابرات المصرية الإيضاح قولاً وفعلاً لقيادة «حماس» إنه لا بوابة لغزة إلى العالم سوى القاهرة، وإنه لا داعي حتى لأي جولات خارجية لقيادة المكتب السياسي ما داموا باستضافة مصر، كما أنه لا داعي لاستفزاز الأميركيين بعدما وضع إسماعيل هنية على قائمة الإرهاب. تعاطٍ أمنيّ لم يغطِّ على الجولة الخارجية فحسب، بل على مجمل التواصل مع الحركة، حتى في أيام الصلح وتحسن العلاقات.مرّت سنة على تسليم حركة «حماس» جميع أوراقها للسلطات المصرية، بما في ذلك حل «اللجنة الإدارية» التي شكلتها الحركة لإدارة قطاع غزة، وتنفيذ التعهدات الأمنية على الحدود مع سيناء، إضافة إلى الموافقة على ربط جميع ملفات غزة بالمصريين، على أمل إيجاد حل للواقع الاقتصادي والإنساني المتدهور. لكن الماء كذّب الغطاس، كما يقول المثل، إذ تنبّهت «حماس» متأخرة إلى أن السراب المصري يأخذها لتسير في دوامة من حرق الوقت لمصلحة إسرائيل التي لا ترغب في تغيير الواقع إلا بأثمان باهظة، وأيضاً لمصلحة الولايات المتحدة التي تريد فرض رؤيتها المسمّاة «صفقة القرن» على الفلسطينيين.

النظرة الأمنية تحكم
المشكلة منذ البداية هي أن النظرة المصرية التاريخية إلى غزة توصف بأنها أمنية، وليس من دليل قوي على ذلك سوى أن من يتابع هذا الملف هو جهاز «المخابرات العامة»، وندر أن تجلس وفود الحركة مع ممثل من وزارة الخارجية أو الرئاسة. أما المخابرات، فأشبعت «حماس» منذ أكثر من عام بوعود كبيرة، لكن شيئاً ملموساً لم يحدث سوى فتح معبر رفح البري منذ أيار/ مايو الماضي، في خطوة لا تزال مترافقة مع مضايقات متعمدة تجعل السفر من خلاله معقداً، فيما ترى الأوساط الفلسطينية أن ربط فتح المعبر بهدوء الوضع على حدود القطاع يكشف الهدف من فتحه، «رغم أنه يبقى حقاً إنسانياً ووطنياً».
ترى الحركة أنها نفّذت كلّ ما طُلب منها من دون أن تحصّل نتائج


وإخلاف الوعود ليس حصيلة جولة الحوارات الماضية فحسب، إذ إنه قبل أسابيع على حل «اللجنة الإدارية» (أُعلنت بعد نحو 3 سنوات على تشكيل حكومة «الوفاق الوطني» واعتبرتها السلطة تمثيلاً واضحاً لـ«حكومة الظل») وعد المصريون الوفود الحمساوية بأن حل اللجنة سيؤدي إلى رفع العقوبات التي فرضتها رام الله على غزة في نيسان/ أبريل من العام الماضي، ثم إنجاز ملف المصالحة وتلبية الاحتياجات الإنسانية، لكن أياً من ذلك لم يحدث، بل زادت العقوبات وتعرقلت المصالحة بعد أن سارت الحوارات قليلاً، في ظل تخلي القاهرة عن تعهدها بإلزام السلطة بالسير في الخطوات المتفق عليها، رغم التوقيع على ذلك في إعلان شهير في العاصمة المصرية. ومن تلك الوعود أيضاً تشكيل حكومة وحدة وطنية فصائلية، وأخّر المصريون ذلك حتى إتمام المصالحة، رغم عشرات الجلسات بين «حماس» و«فتح» بحضور فصائلي.
بعد هذا كله، دخلت العلاقة بين المصريين و«حماس» منعطفات عدة، في ضوء تغيير المسؤولين عن الملف الفلسطيني، سواء بعد تغيير وزير المخابرات نفسه خالد فوزي وحلول عباس كامل مكانه، أو مسؤول الملف الفلسطيني داخل الجهاز (حل اللواء أحمد عبد الخالق بديلاً من اللواء سامح نبيل). وبعيداً عن الملفات التي لها علاقة بالسلطة الفلسطينية أو الجانب الإسرائيلي، حققت «حماس» للقاهرة طلبات كثيرة، ولا سيما في المواضيع الأمنية، مثل ملف محاربة تنظيم «ولاية سيناء». وتقول مصادر في الحركة إن الأخيرة نفذت جميع مطالب المصريين، بما في ذلك المنطقة العازلة داخل الحدود الفلسطينية، ما تسبّب في إعلان الولاية تكفير الحركة وتهديدها في إصدارات عدة، فضلاً عن تفجير انتحاري في أفراد من «كتائب القسام». في المقابل، لم تحصل «حماس» على تسهيلات أمنية أو حتى إجابة واضحة بشأن مخطوفيها الأربعة في سيناء.

فخ الاضطرار
بعد عام كامل بدأت تتشكل رؤية داخل «حماس» تقول بخطأ مسار التسليم للمصريين على أمل الحصول على شيء، رغم أنه جاء اضطرارياً بحكم البعد الجغرافي عن «الدول الصديقة»، إضافة إلى كون مصر أحد أضلع الحصار على القطاع. كما أنه بعد «تجريب المجرّب» تنبهت الحركة إلى ضرورة وجود أداة تضغط بها على المصريين دائماً، أو حتى الاحتلال الإسرائيلي، للإسراع في انجاز الملفات. ففي السابق، كانت تستخدم ورقة اللاعبين الإقليميين (قطر وتركيا) لتجاوز الدور المصري، لكن هذا الخيار واجه غضباً مصرياً، فضلاً عن أن هؤلاء الرعاة أيضاً لم يثبتوا أنفسهم كوسطاء ناجحين بينها وبين إسرائيل.
والآن لا تجد «حماس» وسيلة للضغط سوى التصعيد التدريجي للمظاهرات على الحدود، وثانياً التمنّع عن الذهاب إلى القاهرة، وهو ما قابلته الأخيرة بتجديد الدعوة، مع التلويح بإيقاف امتيازات أعطتها للحركة عبر معبر رفح، ثم اضطرت إلى إرسال وفد بقيادة عبد الخالق (السبت الماضي) للقاء قيادة الحركة في غزة، حيث أكد قائدها في القطاع، يحيى السنوار، للزوار أنه لن يدخل مصر ما لم يعد المختطفون الأربعة.
وسبق أن استعملت «حماس» هذا الأسلوب في نيسان/ أبريل (راجع العدد 3441 في 2018/4/13) بعدما انتبهت إلى أن الذهاب آنذاك إلى العاصمة المصرية لن يثمر إلا ضغوطاً متواصلة عليها، من دون الضغط على رئيس السلطة محمود عباس، فضلاً عن الرغبة المصرية في إيقاف «مسيرات العودة» من دون ثمن سياسي أو اقتصادي. لكن في الزيارة الأخيرة، ومن باب المحافظة على العلاقة الاضطرارية مع النظام المصري، أوصلت «حماس» بلغة ناعمة (تحرص الحركة على تجنّب إغضاب المصريين) للوفد المصري رفضها أيّ تدخلات يربط فيها بين التهدئة والمصالحة، أو أن تجبر على قبول حالة بالهدوء من دون تحقيق مسبق للوعود.
حتى حينما تقدم مبعوث الأمم المتحدة لـ«عملية السلام» في الشرق الأوسط، نيكولاي ملادينوف، بعروض تحت مبدأ الهدوء مقابل تحسينات، برز غضب مصري من ذلك، وطلبت القاهرة أن يكون عمل ملادينوف عبرها أيضاً. وهي في الأساس لم تتوان عن أي جهد في محاصرة قدرات «حماس» العسكرية عبر محاربة إدخال الأسلحة والأدوات العسكرية إلى القطاع عبر سيناء، إذ ترى القاهرة أن الحركة لن تفكر في الحرب ما دامت الإمدادات مقطوعة.
هكذا تتلخص النتائج لدى «حماس»، كما تفيد أوساط سياسية، بأنها وصلت إلى اقتناع يفيد بأن المصريين يعملون على ضمان أطول مدة من الهدوء لمصلحة إسرائيل التي تواصل استعداداتها للحرب المقبلة مع غزة، خاصة بعد إكمال الجدار الأرضي المضاد للأنفاق الهجومية والعازل البحري في نهاية 2019، بالإضافة إلى مضاعفة عدد «القبة الحديدية» وفعاليتها، فيما يتوقع المصريون وأجهزة أمن ومراكز دراسات أن تعيد أي حرب مقبلة على القطاع «حماس» إلى أكثر من 10 سنوات إلى الخلف في ضوء الوضع الاقتصادي الحالي، وزيادة على ذلك، أن تعجز الحركة عن استعادة بناء قدراتها طوال هذه السنوات.