قبل أيام، تم تفكيك جزء من السور الروماني الذي كان يحيط ببيروت، في منطقة الباشورة، لصالح مشروع عقاري مزمع إنشاؤه هناك. المديرية العامة للآثار بررت السماح بتدمير هذا الموقع الأثري الأهم في العاصمة بحجة «الدمج» الذي يقوم على تفكيك الآثار وإعادة نقل جزء منها الى مكان المشروع بعد الإنتهاء منه بهدف عرضها، فيما يقول العارفون إن هذه العملية تُدمّر روحية الآثار وتُخصخصها وتجعلها مجرّد «ديكور» للمشاريع العقارية، فيما بلدية بيروت ومحافظها في «كوما».بكل برودة، أُزيل ما تبقّى من السور الروماني الذي كان يحيط بمدينة بيروت. في منطقة الباشورة، عملت رافعة على «تفكيك» حجارة السور التاريخي في الموقع الأثري الأهم الذي يضم نحو 250 مدفناً ومئات الهياكل الأثرية، بحسب صور نشرها موقع «بيروت ريبورت» الالكتروني. «الأشغال» جرت خلف جدار بُني حول الموقع الذي اكتشف العام الماضي، ويعدّ واحداً من أكبر المواقع الأثرية في العاصمة، ويعتقد بأنه يشكّل كنزاً من المعلومات عن بيروت التاريخية، خصوصاً أن الآثار المكتشفة فيه في حال جيدة جداً. الهياكل المزخرفة والمنحوتات وأرضيات الفسيفساء تدفع الى الاعتقاد بأن الموقع ربما كان يشكّل مكاناً لاستراحة القادة في العصر الروماني عندما كانت «بيرتوس» مستعمرة رومانية.
(الصور من موقع «بيروت ريبورت»)

«التفكيك» تم بايعاز من المديرية العامة للآثار، لمصلحة مشروع «استثماري» جديد سينضم الى مشاريع أخرى قامت على أنقاض آثار العاصمة التي تعرّضت لتدمير منهجي خلال العقدين المنصرمين. إذ أن بعض التقديرات يشير إلى أن العاصمة كانت تحوي في التسعينيات على نحو 130 موقعاً أثرياً لم يتبقَ منها سوى سبعة تقريباً بسبب نهج «الإعمار» الذي اعتمد خلال الفترة السابقة، وتساهل (وتواطؤ) وزراء الثقافة المتعاقبين والمجالس البلدية مما رسّخ مصالح المستثمرين على حساب هوية المدينة.
لتبرير تفكيك السور، تتذرّع المديرية العامة للآثار بـ«الدمج» و«إعادة الدمج». وهي عملية تعني تفكيك الآثار من مواقعها الأصلية وحفظها في مستودعات وإعادة نقل جزء منها لعرضها داخل المشروع الاستثماري المزمع إنشاؤه على العقار الذي كان يحوي على الآثار.
رئيس تحرير «بيروت برس» الأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت المهتم بشؤون الآثار حبيب بطاح سأل عمّا إذا كان الهدف من الدمج تحويل هوية المدينة الى «ديكور» للمشاريع العقارية الضخمة، لافتاً الى أنه سبق أن تم دمج جزء من السور الروماني في منطقة الجميزة بمشروع شُيّد هناك، «فكم مواطن تمكّن من التعرّف على آثار السور داخل ذلك المشروع؟». ويؤكد بطّاح لـ«الأخبار» أنّ عمليات الدمج تساهم بشكل أو بآخر في خصخصة الآثار وجعلها حكراً على روّاد المشاريع المُشيّدة، و«جميعنا يعلم من هي الطبقات الإجتماعية التي ترتاد المشاريع العقارية الكبرى».
وسيلة الدمج هذه، بـ«الطريقة اللبنانية»، تقوم على حصر الآثار ضمن مشروع معين و«اتاحتها» لفئات دون أخرى بدل جعلها على تماس مع الناس عبر خلق مساحات تفاعلية تسمح لهم بالولوج الى ذاكرتهم وتاريخهم وهويتهم، عبر استحداث حدائق عامة للآثار، مثلاً، كما هي الحال في معظم دول العالم.
كانت بيروت تحوي في التسعينيات على نحو 130 موقعاً أثرياً لم يتبقَ منها سوى سبعة


مصادر في المديرية قالت لـ«الأخبار» إنّ الحفريات التي يشهدها موقع السور مُقسّمة إلى عدّة أجزاء؛ بعض الآثار سيتم دمجها ضمن المشروع العقاري المزمع انشاؤه هناك بموجب مراسيم حكومية، وأخرى سيتم تفكيكها وإعادة دمجها مع غيرها من الآثار المودعة لدى المديرية، فيما سيتم نقل جزء آخر إلى المستودعات التابعة للمديرية كالمدافن. وفي هذ السياق، ثمة علامات استفهام كثيرة تطرح حول مدى إمكانية استيعاب مستودعات المديرية لهذا الكم من الآثار، وما إذا كانت آمنة بما يكفي للحؤول دون أن تنتهي الآثار في بعض البيوت الخاصة؟
رئيس جمعية «نحن»، محمد أيوب، اعتبر أن إدّعاء أرشفة الآثار وحفظها في مستودعات «غير منطقي»، لافتا الى أن السياسة المعتمدة «تخدم المستثمر وتجعلنا نخسر الآثار، لأن أهميتها تكمن في موقعها الذي وجدت فيه، وبعضها يفقد أهميّته حُكماً عندما يخضع للتّفكيك والنّقل». يؤكّد أيّوب أنّ «الدّمج ليس هو القاعدة بل الاستثناء، ويجب العمل وفق سياسة توصي بعدم إزالة الآثار والإبقاء عليها في مكانها، لأنّ تفكيكها هو تدمير لتاريخ العاصمة القديم بغية استبداله ببناء باطون»، معرباً عن الأسف لأن «مجزرة الآثارات مستمرّة في وسط بيروت».
مسؤولية حماية الآثار تتوزّع على جهات عدة من بينها بلدية بيروت (عبر مجلسها البلدي ومحافظ المدينة القاضي زياد شبيب) التي تمنح الرخص لأصحاب المشروع وللمستثمرين، فيما تلعب المديرية العامة للآثار دور الخبير التّقني الّذي يُقيّم الآثار ويحدّد أهميّتها بهدف اتّخاذ القرار المناسب بشأنها. إلّا أنّ القرار النهائي يعود لوزير الثّقافة وحده دون سواه.