الجزائر | ظلت قضية «الحركى»، الجزائريون الذين قاتلوا إلى جانب الجيش الفرنسي ضد أبناء بلدهم خلال ثورة التحرير الجزائرية، شوكة في حلق السلطات الفرنسية، التي لم تستطع التخلص من تهمتي التخلي عن الجزء الأكبر منهم بعد استقلال الجزائر في العام 1962، أو التوقف عن معاملة البقية، ممن هاجروا إليها بشكل عنصري، فضلاً عن حرمانهم من حقوقهم المادية والمعنوية.تسعى سلطات باريس في كل مرة، إلى خطوات تصالحية مع «الحركى» وأبنائهم، من أجل إغلاق «الصفحة السوداء» من تاريخ فرنسا الحديث. آخر ما أقر به الرئيس إيمانويل ماكرون في هذا الاتجاه، منح 7 من ممثلي ورموز «الحركى» في فرنسا، وسام «جوقة الشرف»، أعلى تكريم تمنحه الدولة الفرنسية، وترفيع 4 منهم إلى درجة الاستحقاق الوطني برتبة ضابط، و15 آخرين إلى رتبة «فارس»، وغالبيتهم ممثلون عن جمعيات أو هيئات.
لم يَشذ ماكرون في هذه الخطوة عن الرؤساء السابقين، الذين كانوا يحرصون على تقديم «قرابين اعتذار» إلى «الحركى»، كل واحد منهم على طريقته الخاصة. فالرئيس فرانسوا هولاند، اعترف خلال فترة رئاسته، بمسؤولية الحكومات الفرنسية المتعاقبة في «التخلي عن الحركى، والمجازر التي تعرضوا لها أولئك الذين بقوا في الجزائر، والظروف اللاإنسانية التي عاشتها العائلات في ملاجئ فرنسا». أما في عهد الرئيس جاك شيراك، فتم اعتماد تاريخ الـ25 من أيلول/ سبتمبر من كل عام، كيوم وطني لـ«الحركى». بيد أن الرئيس الفرنسي الحالي، على عكس سابقيه، يبدو محكوماً في قراراته بتوازنات داخلية فرنسية دقيقة، تَظهر من خلال اختيار توقيت «تكريم الحركى»، الذي جاء بعد أيام فقط من اعترافه بمسؤولية فرنسا عن اغتيال وتعذيب المناضل موريس أودان، أحد الشيوعيين المساندين للثورة الجزائرية، واعترافه بأن بلاده أقامت نظاماً للتعذيب خلال الثورة، وهي خطوة أثارت جدلاً واسعاً في فرنسا، وتحفظ عليها بشدة، صقور اليمين وتيار اليمين المتطرف وجمعيات «الأقدام السوداء» (المعمرون الفرنسيون في الجزائر) و«الحركى»، لما تُمثل من «إدانة غير مقبولة» للدولة الفرنسية، وفق تعبيرهم.
قرر ماكرون التخفيف من حدة الانتقادات التي طاولته جراء الاعتراف بجريمة أودان


ماكرون، الذي يحاول إمساك العصا السياسية من الوسط في فرنسا، أدرك منذ البداية، أن اعترافه باختطاف وتعذيب أودان، وباعتماد نظام تعذيب خلال الثورة، بقدر ما سيجلب له مساندين من تيار اليسار والشيوعيين المعادين بقوة لخياراته، ويفتح له آفاقاً جديدة للتعاون مع السلطات الجزائرية، التي تلقت قراره بالترحيب، سيعرضه في المقابل، لسهام اليمين واليمين المتطرف، وأصحاب الحنين إلى ماضي «الجزائر الفرنسية» سياسياً وإعلامياً. لذلك، اختار ماكرون، في اليوم الذي قرر فيه الاعتراف بجريمة أودان، الإعلان أيضاً عن أنه سيقوم بلفتة تجاه «الحركى»، من أجل معادلة الكفة، وتخفيف حدة الانتقادات التي ستطاوله.
يبدو أن ماكرون، قد اتعظ جيداً من الجدل الذي صاحب زيارته إلى الجزائر، في شباط/ فبراير 2017، أثناء ترشحه للرئاسيات الفرنسية، حينما أقر بأن الاستعمار الفرنسي ارتكب جرائم ضد الإنسانية في الجزائر، الأمر الذي كلفه في حينها، تراجعاً في استطلاعات الرأي، بعد أن قدر مساندوه، خصوصاً من اليمين الفرنسي، أنه ذهب بعيداً في تصريحاته. وقد اضطر الرئيس الفرنسي على وقع ذلك، أن يتراجع ويخفف من لهجته، ليَعِد «الحركى»، بأنه سيعمل على رد الاعتبار لهم. وبالفعل، فور عودته زائراً إلى الجزائر، كرئيس في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، دعا السلطات الجزائرية بشكل صريح إلى السماح لـ«الحركى» بالعودة إلى بلدهم.
وفي مقابل الاضطراب الفرنسي، يظهر الموقف الجزائري حاسماً من هذه القضية. فقد ذكر وزير المجاهدين الطيب زيتوني، في حديث إذاعي أخيراً، رداً على دعوات ماكرون، أن هؤلاء يعدون «خونة»، ولا مكان لهم في الجزائر، إذ تضع السلطات الجزائرية «الحركى» على قائمة الممنوعين من دخول أراضيها. وسبق للرئيس عبد العزيز بوتفليقة، خلال زيارة إلى فرنسا في عهد الرئيس الفرنسي جاك شيراك، أن سئل عن هذا الموضوع، فشبه وضع «الحركى» بالمتعاونين الفرنسيين مع النظام النازي في الحرب العالمية الثانية، وهو ما أثار غضباً شديداً في الأوساط الفرنسية المتعاطفة مع هذه الفئة.
لا تبدو السلطات الجزائرية مهتمة بقضية إعادة الاعتبار إلى «الحركى»، لأن ذلك شأن فرنسي داخلي، باعتبارهم مواطنين فرنسيين وليسوا جزائريين بحسب تقديرها. لكن أكثر ما يُزعج باريس، هو ترديد الرواية التاريخية على أن نحو 60 ألف «حركي» تعرضوا للإبادة الجماعية على يد «جبهة التحرير الوطني» غداة استقلال الجزائر. وقد أصبحت هذه الرواية محل شك، حتى من قبل الفرنسيين أنفسهم، إذ صدر قبل سنتين كتاب «بيار دوم»، تحت عنوان «الطابور الأخير»، الذي يشير إلى أن أكثر من 420 ألفاً من أصل 450 ألف حركي عاشوا بشكل طبيعي في الجزائر بعد الاستقلال.